دخلت عملية تحرير طرابلس مرحلة جديدة خلال الأسابيع الماضية، بدأت عندما دفع رئيس المجلس الرئاسى فائز السراج العصابات التشادية تحت إمرة حسن موسى التباوى قائد قوة حماية الجنوب نحو مدينة مرزق جنوب غرب العاصمة بهدف تشتيت جهود الجيش الوطنى الليبى؛ وهو ما حدا بالمشير خليفة حفتر إلى تطوير حرب التحرير لتشمل كافة المدن والبؤر التى تشكل تهديدا حقيقيا لعناصر جيشه وأماكن تمركزها.
فقد بدت تحركات الجيش الليبى وعملياته الحربية أكثر شمولا واتساعا بطول البلاد وعرضها، حيث وجدنا الصواريخ الليبية تستهدف لأول مرة طائرة شحن تركية جاءت إلى مصراتة محملة بالأسلحة والذخائر دون أى رد فعل من أنقرة على عكس ما كان الرئيس التركى يعلنه من وعيد وتهديد.
وذهبت القوات المسلحة الليبية إلى ما هو أبعد من ذلك بتدميرها مبانى ودشما داخل الكلية الجوية بمصراتة كان يجرى إعدادها لتكون قاعدة جوية تركية تنطلق منها طائرات الإرهابى أردوغان لمحاربة الجيش الوطنى الليبي؛ وفى نفس الوقت كان السلاح الجوى الليبى يطير فوق سماء مدينة مرزق ليدمر آليات وعربات مصفحة يستقلها عناصر العصابات التشادية وبعض الجماعات الإرهابية الليبية المنتمية لداعش والقاعدة.
وقد أدان السراج تلك العملية الموسعة، مؤكدا أن ضحايا ما سماها المجزرة كانوا جميعا من المدنيين، لكن إبراهيم بن عمر أحد قادة العصابات التشادية فضح كذب ادعاءات السراج ونشر على حسابه بموقع التواصل الاجتماعى فيسبوك مطلع الأسبوع الجارى أسماء 32 عنصرا تكفيريا قتلوا ونعتهم بالشهداء طالبا لهم الرحمة ومتوعدا بالانتقام.
وبينما كان يعتقد السراج أن الهجوم على مرزق سيشتت جهود الجيش الوطنى الليبى كانت كتائب الجيش تجتاح منطقة غوط الريح جنوب شرق مدينة غريان وتطارد فلول عصابات السراج الإرهابية على أطراف المدينة، لتفقد حكومة الوفاق سيطرتها عليها بعد نحو شهرين من احتلالها بالاتفاق مع بعض أعيان غريان الذين خانوا تعهداتهم للجيش عندما دخلها مع بداية عملية تحرير العاصمة.
وخلال الأيام وربما الساعات القليلة المقبلة قد يعلن الجيش الوطنى الليبى استعادة سيطرته الكاملة على غريان المدينة الجبلية التى تقع على بعد 100 كم جنوب غرب طرابلس، وتعد بمثابة نقطة الوصل بين غرب ليبيا وجنوبها ليمهد الطريق بذلك أمام القوات المتواجدة على تخوم العاصمة وفى مناطق قريبة من وسطها، وتشكل عنصرا ضاغطا على الجماعات داخل طرابلس.
فيما تتسع رقعة العمليات الحربية التى يقوم بها الجيش الوطنى الليبي، تتقاتل جماعات السراج الإرهابية فيما بينها حيث وقعت معارك ضارية بين كتيبة معمر الضاوى التابعة لوزارة دفاع ما تسمى بحكومة الوفاق، وكتيبة فرسان جنزور التابعة لوزارة داخلية الوفاق عند بوابة الـ17 على الطريق الساحلى المؤدى إلى مدينة الزاوية، وذلك فى إطار الصراع على النفوذ وتقاسم كعكة الثروات الليبية، كذلك قام ما يسمى بثوار طرابلس السبت الماضى، بقصف أماكن تمركز ما تسمى بقوة الردع داخل مطار معيتيقة، بالإضافة إلى المعارك والاشتباكات التى تندلع بين الحين والآخر تحدثت تقارير عن انشقاقات كبيرة داخل حكومة السراج وقعت بينه وبين المنتمين تنظيميا لجماعة الإخوان الإرهابية بسبب اتهام الأخيرة له ولوزير خارجيته محمد السيالة بالتهاون فى الحرب ضد الجيش الوطنى الليبى خاصة بعد ما تم تسريبه من داخل أحد اجتماعات حكومة الوفاق التى طالب فيها السراج وزراءه باقتراح حلول لوقف الحرب وإحلال السلام وتأكيده على ضرورة تقديم تنازلات مؤلمة.
فى ظل تلك التطورات، جاءت قمة الدول الصناعية السبع الكبرى لتنقل إلى العالم شبه توافق بين الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة فى المسألة الليبية، وبدت ركائز الرؤية المصرية لتسوية الأزمة كعناوين رئيسية لذلك التوافق خاصة بين فرنسا وأمريكا، حيث كانت مصر الأكثر تحديدا ووضوحا فى وضع النقاط على الأحرف بتأكيدها على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى ضرورة أن تكون التسوية السياسية قائمة على فرض الاستقرار والأمن مع محاربة الجماعات الإرهابية وداعميها ووقف التدخل الأجنبى فى شئون ليبيا وإعادة توزيع الموارد بشكل عادل وتحقيق الشفافية فى سبل إنفاقها.
فرنسا أعلنت استعدادها مع بريطانيا تنظيم مؤتمر دولى حول ليبيا خلال الأسابيع المقبلة؛ ولكن مراقبين اعتبروا تلك الأسابيع التى تفصلنا عن انعقاد هذا المؤتمر بمثابة الفرصة الأخيرة للمشير خليفة حفتر ليدخل بقواته ميدان الشهداء قلب العاصمة طرابلس؛ فإذا ظل فى مكانه سيكون مضطرا للجلوس على مائدة واحدة مع السراج وما يمثله من ميليشيات تنتمى لجماعة الإخوان.
غير إن هذا السيناريو الذى قد يروق لأطراف مثل تركيا وقطر وإيطاليا رغم ما تبديه الأخيرة من توافق مع الرؤية المصرية لا يستقيم مع مصالح الليبيين أنفسهم، علاوة على مصالح جيرانهم فى مصر وتشاد والنيجر وباقى دول الساحل الأفريقى فجماعة الإخوان «المنفذ لأجندة المصالح التركية والقطرية» كانت سببا لسفك دماء الليبين وتشريدهم، وانتهاك الأمن القومى لجيرانهم عبر الحدود الشاسعة.
يبقى سيناريو آخر يدعمه التوافق المصرى الأمريكى الفرنسي، حيث ينعقد المؤتمر الدولى الذى تحدثت عنه باريس ليضع حدا للتدخل التركى والقطرى ويمنع تدفق الإرهابيين إلى ليبيا، ويدعم الجيش الوطنى الليبى فى حربه على الإرهاب، ويقر بأن البرلمان الليبى الوحيد المخول لرسم خارطة المستقبل السياسى دون إملاءات خارجية لا تراعي مصالح الليبيين.
ميدانيا، يبقى سيناريو التصعيد هو الأرجح لتوافقه مع المصالح التركية والقطرية وربما الإيطالية بالعمل على إشعال المزيد من المناطق الجنوبية، خاصة أن أنباء تحدثت عن تمركز عناصر متمردة من شرق السودان على الحدود مع لبيبا وتشاد قيل أنها تابعة لما يسمى بجبهة الثورة، ويخشى أن تكون هذه العناصر قد تلقت إمدادات من حكومة السراج شأنها شأن المرتزقة من العصابات التشادية.
وفيما يبدو أنها محاولة للبحث عن مخرج سياسى لدى البيت الأبيض، توجه فائز السراج على رأس وفد من حكومته مساء الاثنين الماضى وعقب انتهاء أعمال قمة السبع إلى تونس والتقى قيادات عسكرية أمريكية رفيعة بقوات أفريكوم، وعلى الأرجح يأتى هذا التحرك على خلفية التوافق على الرؤية المصرية، وبعد فقدان ميليشياته السيطرة تماما على مدينة غريان الحيوية.