عقب نكبة 48 كانت الأحداث تجرى فى مصر بأسرع مما توقعه جمال عبدالناصر والذى صرح لرفاقه فى تنظيمه المعاد تكوينه بأن أى حركة للجيش لن تتم قبل 1955، ولكن ها هى الأحداث تتلاحق، فبعد مقتل حسن البنا أراد من بقى خارج السجون من جماعة الإخوان أن يرد ولو بعملية انتقامية ضد هذا (النظام الفاسد) والملك (العربيد) ورئيس وزرائه (المجرم) إبراهيم عبدالهادى، وهذه هى الألفاظ التى كان الإخوان يستخدمونها حينها، قبل أن يختلفوا مع عبدالناصر فى 54 ويتحول العهد الملكى عندهم فجأة إلى جنة النعيم، وفى هذه الأثناء كانت الجماعة على تواصل مع الضباط الأحرار وحاولوا الضغط على جمال ورفاقه كى يقوموا بأى عمل اغتيالى للرد على مقتل البنا، لكن عين جمال رفض بشدة، فقد كانت عينه متجهة صوب ما يحدث فى مدن القناة والتى تحولت إلى مقاطعات بريطانية يعيش فيها أكثر من ثمانين ألف جندى إلى جانب جالية كبيرة تمارس ما يحلو لها على شاطئ القناة التى حفرها المصريون بدمائهم، وكان أبناء هذه المدن فى حالة استفزاز دائم من أفعال الإنجليز التى لا تراعى إسلامًا أو تقاليد وكلما حدثت مشكلة بين مصرى وإنجليزى كانت المحكمة تقضى بأقصى عقوبة على المصرى، ونتيجة لهذا بدأ الشعور بالغضب ينتاب جميع أبناء الشعب لاسيما بعد سقوط فلسطين فى 48 ومعاونة ومساندة الإنجليز الواضحة لإسرائيل، وبدأ العشرات من الوطنيين المخلصين ينظمون أنفسهم فى خلايا فدائية ويسافرون إلى مدن القناة للقيام بعمليات انتقامية من الإنجليز، وكان جمال يدرك أن خروج الإنجليز نهائيًا من مصر لن يحدث إلا بالقوة، وهذا يتطلب تكبيدهم أكبر خسائر فى الأرواح مما يدفع الشعب الإنجليزى أن يجبر حكومته على اتخاذ قرارات من شأنها التخلى عن مصر كمستعمرة بعدما تحولت إلى مقبرة لأبنائهم، ومن هنا قرر جمال أن يقوم هو ورفاقه بتدريب مجموعة من الفدائيين على أعمال القتال، ليصبح هذا هو أول عمل ميدانى على الأرض للضباط الأحرار، وسرعان ما وصل الأمر إلى قيادة الجيش، حيث فوجئ عبدالناصر باستدعائه فى منتصف 49 إلى مكتب الفريق عثمان المهدى رئيس هيئة أركان الجيش ليحذره وينذره من نشاطه داخل الجيش وتدريبه للفدائيين، ولولا أن جمال كان قد حصل على نيشان النجمة العسكرية بعد عودته من حرب فلسطين ومعرفة القادة للأعمال البطولية التى قام بها فى الفالوجا لكان قد تعرض للمحاكمة العسكرية والفصل من الجيش ولكن الفريق المهدى اكتفى وقتها بتحذيره كإجراء روتينى، وربما فعل ذلك فقط إرضاء للقصر، أما الجيش المصرى فكان لا يمانع من أى فعل عدائى ضد الإنجليز على أن يتم بشكل سرى، ويبدو أن أحد الفدائيين قد تم القبض عليه داخل أحد المعسكرات الإنجليزية فى بورسعيد واعترف بأنه تلقى تدريبه فى صحراء دهشور على يد الصاغ جمال عبدالناصر، وقام السفير الإنجليزى بإبلاغ القصر بهذه المعلومة ولذا تم استدعاء جمال وتحذيره، لكنه لم يتوقف عما بدأه، فهو كعسكرى كان يشعر بغصة فى حلقه بعد نكبه 48 وهو كوطنى كان يريد ألا يفارق جيله الحياة والإنجليز ما زالوا على أرض مصر، وكان جمال ينهى عمله كل يوم فى كلية أركان الحرب فى الثالثة ظهرًا ثم يتحرك ما بين مجموعة من المثقفين والكتاب، وكان لمحمد حسنين هيكل الذى التقاه أثناء تغطيته الصحفية لحرب 48 دوره الكبير فى تقديمه لهؤلاء، وبدأ جمال يذيع بين الصحفيين تلك الهمسات التى كانت تتناقل فى حذر بين أفراد الجيش عن الأسلحة الفاسدة، فتبنى الأمر الصحفى الشاب إحسان عبدالقدوس، والذى أثار الرأى العام بسلسلة مقالات فى مجلة روزاليوسف عن الفساد الذى استشرى فى كل شىء حتى وصل إلى المتاجرة بدماء جنود مصر بهذه الصفقة المشبوهة والمتورط فيها الملك فاروق بنفسه، ونجحت حملة روزاليوسف، وتحويل الأمر إلى قضية مجتمعية انتهت بتقديم عدة بلاغات للنائب العام لفتح التحقيق فيما نشر، وتقدم النائب البرلمانى مصطفى مرعى باستجواب للحكومة عن هذه الصفقة، وبدأت الفضائح تظهر جلية أمام الشعب، فالأسلحة التى حارب بها الجيش فى 48 جمعها تجار السلاح من مخلفات الحرب العالمية الثانية فى الصحراء الغربية مع ذخائر غير صالحة للاستعمال وقد تسبب ذلك فى انفجار أربعة مدافع أثناء الحرب واستشهاد الجنود الذين كانوا يعملون عليها، كما أن عددًا كبيرًا من البنادق لم تكن صالحة للاستخدام، وقد قام صهر الملك بتوريد هذه الأسلحة للجيش مقابل مبالغ كبيرة من ميزانية الدولة، وفى يناير 50 ألف النحاس وزارة جديدة وحاول بضغط من الملك أن يغلق ملف الأسلحة الفاسدة، وكان جمال فى هذا الوقت يواصل لقاءاته مع اليمين متمثلًا فى الإخوان ومع اليسار متمثلًا فى منظمة (حدتو) وبدأ فى كتابة منشورات وطبعها ولصقها على الحوائط باسم الضباط الأحرار وذلك بهدف بث الروح الوطنية فى الشعب المصرى وإحساسه بأن ضباطًا فى الجيش ينتصرون للقضايا القومية وأنهم لن يصمتوا إزاء ما يحدث فى البلاد من ظلم وطبقية وفساد وأن هؤلاء الضباط هزموا فى 48 بتدبير من الملك وأعوانه وبمؤامرة إنجليزية، وقد كانت لهذه المنشورات نتائج رائعة منها على سبيل المثال امتناع سائقى القطارات التى تنقل جنود الاحتلال من توصيلهم وامتناع عمال الشحن من المصريين فى ثغور القناة عن تفريغ حمولة البواخر البريطانية، وامتنع كذلك المتعهدون الذين كانوا يمدون القوات البريطانية بمواد غذائية عن التوريد، مما أدى إلى إلقاء القبض على بعضهم، وكرد فعل قام الجنود الإنجليز باقتحام بعض المنازل وسرقة ما فيها من طعام ومواد غذائية وهنا قرر أبناء مدن القناة الانتقام لأنفسهم، ونشطت كتائب الفدائيين وبدأ القتال، وقرر جمال إشراك الضباط الأحرار فى هذه المعركة الوطنية، وللحديث بقية.
آراء حرة
واحــة الخميـس.. جمال عبدالناصر "6"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق