الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لن تُبنى أمة دون بناء عقولها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جمعني حوار مع إحدى الشخصيات المرموقة فى مجال التعليم الجامعى الخاص، حول مشاكل التعليم فى مصر، والتى أرى أن أحد أهم أسبابها، الاعتماد على مبدأ التلقين والحفظ، دون تنمية التفكير والإبداع والحس النقدي.. والغريب أننى وجدته مقتنعا أن من الأفضل إرجاء هذا الملف لوقت لاحق، لأننا لسنا مستعدين لتنمية الحس النقدى فى هذه المرحلة التى تمر ببلادنا، والتى سوف تتسبب فى تعدد الآراء والمعارضة التى قد تضر بالاستقرار!.. وكنت على النقيض منه، أرى أن الحس النقدى وتنميته، لا يتعارض مع الاستقرار، بل يدعمه.. ولكن المشكلة أن الكثيرين منا فقدوا إيمانهم بالحرية والنقد البناء بعد 2011.. فالمنطقة تفتتت وضعفت وعانت بفعل من يدعون أنهم ينادون بالحرية، والواقع أثبت أن المعارضة فى بلداننا العربية أضرت بأمننا القومي، وأدت إلى نتائج كارثية.. وبالتالى أصبح لدى الكثيرين هاجس الاستقرار!.. ولكن المعضلة أنه لا يمكن أن تتقدم أمة دون أن يرتقى مستوى تعليمها أولا، والتعليم الجيد مقترن بتنمية حس النقد، وبالتالى لا تعليم حقيقى إذا لم تنم الرؤية النقدية للأفراد منذ نعومة أظافرهم، والتى تعنى تنمية التفكير والتأمل، ومن ثم التساؤل والرفض والاعتراض والنقاش، والذى ينتج عنه فى النهاية شخص واع يستطيع فهم وتحليل ما حوله ثم تطوير نفسه ومجتمعه.. ولكن هل مفهومنا عن الحس النقدى صحيح ؟!.. وهل يفترض أن يؤثر على استقرار الدولة كما حدث؟!.. فالمشكلة الحقيقية أننا ليس لدينا تعليم أو وعى حقيقى، بل كانت وما زالت مؤسساتنا التعليمية تنتج أنصاف متعلمين !!.. حتى أننا أصبحنا نشعر أحيانا أن بعض الأميين أكثر وعيا !!.. لأن فطرتهم نقية لم تلوثها الأكاذيب والشائعات والمعلومات المضللة، فكما يقول توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها الثالث منذ 1801 وحتى 1809: «الذين لا يعرفون شيئا هم أقرب إلى الحقيقة من الذين يملكون عقول مليئة بالأكاذيب والمعلومات الخاطئة».. فنحن فى زمن يسهل فيه تداول المعلومات، وإذا لم تقدم المؤسسات الوطنية المعلومات الصحيحة للمواطن، سيحصل عليها من مصادر أخرى قد تضلله وتعبث بأفكاره، وخاصة أنه فى الغالب لا يملك حصانة علمية وفكرية تمنعه من الانسياق وراء التضليل.. ولكن الغريب أن أغلب من ينادون بحرية الرأى والتعبير ويطالبون بها لأنفسهم، ويتفنون فى النقد والمعارضة اللاذعة التى قد تصل إلى الهجوم العنيف، لا يؤمنون بتلك الحرية لغيرهم!! بل يتعصبون لآرائهم، وينفعلون بشدة إذا وُجه لهم النقد أو المعارضة، فيتحولون لشخوص أخرى، وينعتون من يعارضهم بأشد الألفاظ!!.. وبالتالى فالمشكلة فيما اكتسبناه من مجتمعاتنا ومن مؤسساتنا التعليمية والإعلامية والثقافية، فلم يترسخ داخلنا المعنى الحقيقى للحرية التى يسبقها المسئولية، والنقد الذى يسبقه قبول الاختلاف والرأى الآخر، فلم نتعلم احترام اختلافنا، وعدم الاستهانة بعقول بعضنا البعض.. فالتعليم والثقافة الحقيقة، لا تجتمع مع تحجر الرؤية والتعصب الأعمى، دون إدراك وقبول اختلافات البشر.. ولكن إذا كنت أؤمن أننا من المحال أن نتقدم إلا بالتعليم الجيد، الذى أساسه الحس النقدى، فمن الواجب قبلها أن يترسخ داخلنا مقولة الإمام الشافعى: «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».. وبالتالى تصبح عقولنا أكثر مرونة، ونصبح أكثر تسامحا وقبولا مع الآراء الأخرى.. وكما نسمح لأنفسنا بالنقد نتقبله.. وقبل هذا وذاك نتعلم أن حدود النقد تتوقف عند إبداء الرأى دون محاولة فرضه.. فلا يمكن أن يحتكر أحد الحقيقة المطلقة، والمجالات المعرفية كلها ليست حكرا على أحد، فهى قابلة للاجتهاد، والكل يمكن أن يخطأ أو يصيب.. فكما قال العالم والفيلسوف الفرنسى بليز باسكال فى القرن السابع عشر إن: «مرض الإنسان الطبيعى إيمانه أنه يمتلك الحقيقة».. وكان الشاعر جبران خليل جبران يؤكد نفس المعنى بمقولته: «أنا لا أعرف الحقيقة المجردة، ولكنى أركع متواضعا أمام جهلى».. وقد أثبتت التجارب أن الآراء قد تتغير مع الأيام والخبرات، وقد تتحول إلى النقيض مع الزمن !.. فكما يقول المثل الإنجليزي: «الحقيقة بنت الزمان».. أما المبدأ الذى أصبح يتبناه البعض، ممن يرفضون العقليات الإبداعية ويحاربونها، بدعوى أنها قد تعطل العمل أو تضر المصلحة العامة، لأنهم كثيرو التساؤلات وطرح الأفكار التى قد تؤخر العمل والإنجاز! وبالتالى يفضلون الشخصيات التى تطيع وتنفذ ما يطلب منها دون إبداء الرأى!.. فماذا عن الجودة والتطوير والأفكار الجديدة التى قد تؤدى إلى نتائج أفضل فى وقت أقل بعد ذلك؟!.. فدونها سنظل نمشي بنفس الطريقة دون تطور.. وعلينا أن ندرك أننا لن نضمن الحفاظ على أى تقدم نحرزه أو أى نجاح نحققه، دون خلق أجيال واعية.. فلن تبنى أمة دون بناء عقولها.