الحنين إلى الماضى أو ما يعرفه علماء النفس بـ«النستولوجيا» عبارة عن شعور عاطفى طبيعى ينتاب النفس البشرية عندما تعود بها الذاكرة إلى ذكريات جميلة فى زمن مضى، ويختلف هذا الشعور من شخص إلى آخر لكنه، بلا شك، يتحول هذا الحنين إلى حالة مرضية عندما يتحول إلى هوس بكل ما هو فى الماضي،مع أن الماضى الذى نصفه بأحسن الأوصاف ليس زمانًا مثاليًا كما نعتقده فالحياة هى الحياة بكل منغصاتها لم تتغير بالرغم من اختلاف الأساليب، والبشر هم البشر بكل صفات الخير والشر، وفى كل زمان هناك الخير والشر والجيد والردىء والحسن والبغيض.
والنستولوجيا السياسية تظهر فى إطار فردى وجماعي، فى الإطار الفردى يكون الحنين إلى الماضى وإعادة ذكريات الأيام الماضية كنوع من الحسرة على تلك الأيام، والحنين الجماعى هو محاولة هروب جماعى من الحاضر تحت وطأة واقع يعانى من صعوبات بالغة الأثر فهروبًا من هذا الواقع يسعى لتكوين صورة وهمية وتخيلات رمزية من ماض سعيد. والحقيقة ليست كذلك فلم يكن هذا الماضى سعيدًا ولا الواقع أفضل وهذه الصور والإيحاءات ما هى إلا اجترار لحديث وصور ومعلومات لا تمثل حقيقة الأمر ولا كل الواقع فى الماضى بل هى صورة مطلوب تكرارها كثيرًا فى إطار عرض تشويقى ويتم توظيفها لتترسخ فى الخيال الجمعى الذى لم يشاهد تلك الحقبة حتى يتكون لديه صورة خيالية وتخيلية عن ذهبية هذه المرحلة الماضية، على ذلك لم يقتصر الحديث عن ثورة 23 يوليو 1952 عند الاحتفال بعيد الثورة فى كل عام ولكن الحديث تجاوز المناسبة وأصبح معيشًا على مدار العام ولا أبالغ لو قلت على مدار الساعة فلا يمر يوم إلا نرى ونشاهد ونقرأ فى جرائد ومجلات خاصة ناهيك عن تلك القنوات الخاصة وبالأخص التى يملكها أفراد ودول ضد ثورة يوليو وضد عبدالناصر على طول الخط وطوال الوقت وكأن ثورة يوليو ما زالت قائمة وكأن عبدالناصر حيًا يرزق، وهؤلاء لهم مواقف من يوليو سواء كانت شخصية نتيجة تضرر أجدادهم من الإقطاعيين والرأسماليين من قوانين التأميم أو نظرًا لموقفهم السياسى الذى يناقض مبادئ وأهداف وقرارات يوليو التى لم يعد لها تواجد على أرض الواقع إلا فى الجانب السياسى الذى يؤكد على الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية والجانب الفكرى الذى يتلخص فى تجربة ثرية مر بها الوطن لها ما لها وعليها ما عليها ولكنها جزء مهم ومضىء فى تاريخ الوطن خاصة لفقرائه ولطبقته الوسطى، وهنا نرى الكارهين ليوليو على طول الخط وهم يحملونها كل الأخطاء والكوارث والمشاكل والإخفاقات السياسية والاقتصادية التى تحدث حتى هذه اللحظة ناسيين ومتناسين أن يوليو 1952 بكل ما لها وما عليها توقفت فى إطار القرارات والتنفيذ على أرض الواقع منذ عام 1974، عام تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، ولم يتبق من يوليو إلا الفكر والمبدأ والتجربة،كما أن هؤلاء فى جميع وسائلهم الإعلامية يتبنون فكرة الحنين إلى الماضي، والماضى أى ما قبل 23 يوليو 1952 بكل ما فيه شكلًا وموضوعًا وبدون استثناء، وكأن قراءة هذا الماضى يمكن تُقرأ وتُقيم بهذه الطريقة الفجة غير الموضوعية ولا علاقة لها بالمنهج الصحيح لقراءة التاريخ، فما يحدث هو تسويق سياسى لنظام سياسى يناقض سياسة يوليو، ومن الأمثلة انتشار الفيديوهات والصور لمصر قبل يوليو 1952 وتداولها من خلال وسائل التواصل بهدف التسويق والتشويق وخلق خيال جمعى خاطئ عن تلك المرحلة التى يصورونها الجنة على الأرض التى كان يعيش فيها كل المصريين، وكأن مصر كانت هى الأولى فى العالم وكأن الشعب المصرى هو الشعب الذى وصل لمستوى الرفاهية والسعادة التى لم يقاربها غيره. فالشوارع والعمارات والنظافة فى مرحلة تاريخية نشاهدها فى أفلام الأبيض والأسود وهى صورة جميلة نتمنى جميعًا أن تعود مصر إليه، لكن من المغالطات الفاجرة تصدير أن مصر كلها بشوارعها ومدنها وقراها وصعيدها كانت على هذه الصورة فهذا كذب وتدليس واستغلال لهذا الحنين لتشويه مرحلة سياسية بذاتها وتحميلها كل الأخطاء وكأن هذه المرحلة هى التى قضت على هذا الجمال وتلك النظافة، فهذا الجمال والنظافة لهذه الأحياء ظلت حتى سبعينيات القرن الماضى ولم يُقض عليها بعد وما قُضِيَ عليه ليس بسبب ثورة يوليو،كما أن هذه الأحياء وتلك الصورة هى حالة انتقائية لا تمثل الواقع المصرى من قريب أو بعيد، فمصر الشعب، وأغلبية المصريين لا علاقة لهم بتلك الأحياء ولم يشاهدوها أصلًا، لكنها صورة مصر النخبة، مصر النصف فى المائة، ففى ظل هذه الصورة المنتقاة كان هناك فقر وجهل ومرض يستشرى فى أجساد الأغلبية، كان الحفاء «أى أن المواطن لا يملك حذاء يرتديه بل يسير حافيًا فى صقيع الشتاء ولهيب الصيف» ومحاربته أحد المشروعات الهامة التى قامت بها ثورة يوليو، كانت المستشفيات والمدارس والجامعات وحالها السيئ هى المقابل لتلك القصور وهذه الأحياء. نعم الحنين إلى الماضى حالة نفسية تنتاب كل منا ولكن لا بد أن تكون فى الإطار النفسى الطبيعى والعادى الذى لا يجعلنا نستغرق فى الماضى ولا نعيش الواقع ويضيع منا المستقبل، وحتى لا نصاب بداء الاغتراب نتيجة لاستغراقنا فى الماضي. أما تلك الادعاءات والافتراءات التى تحاول أن تُعيد التاريخ بترديد مسمى جلالة الملك المعظم، فهذا لن يشوه الحقيقة ولن يُعيد جلالة الملك، فالشعب المصرى هو من يمتلك مصر الآن حتى لو كانت هناك مشاكل يتحملها المصرى بطيب خاطر وحبًا فى الوطن وتمسكًا بجمهورية مصر العربية الديمقرطية المدنية الحديثة.