منذ 130 عامًا أُنشئت بلدية الإسكندرية، وهى ثانى مجلس بلدى بعد باريس، وكان بالفعل مدرسة لتربية الكوادر المؤهلة لإدارة شئون المدينة من خلال تركيبة اجتماعية يضاف إليها الإشراف الحكومي.
كانت هى مركز صناعة القرار من التخطيط العمرانى وحماية معالمها السياحية والحضارية، فإن المحافظ الذى تولى فى ذات الوقت الأمور الرسمية كانت وظيفة بروتوكولية يملك ولا يحكم تاركًا المسئولية تحت تصرف المجلس البلدى الذى ضم الكفاءات، وأمام الضغوط المتزايدة أطلق بيرم التونسى معبرًا لانحيازه للبسطاء «يابائع الفجل بالمليم واحدة.. كم للعيال وكم للمجلس البلدي» ولم تكن من سياسة المجلس الجباية القاسية لكن استطاع أن يوظف جميع الإيرادات لصالح الخدمات المباشرة حتى قيل إن الإسكندرية والقاهرة أشبه بنيس وباريس فى فرنسا.
وصلت درجة ذروة العطاء حتى بدأت حركة (الكناسين) مع مطلع الفجر وتنظيف الشارع ثم تمر سيارة رش الشوارع بالصابون مرتين صباحًا وعصرًا وتعزيزها بالمبيدات الحشرية، وعلى المستوى الصحى أُنشىء أول مبنى للإسعاف فى أفريقيا وانتقلت للقاهرة وأُنشئت المستشفيات حتى محطات علاج (البلهارسيا) إلى مستشفيات الولادة والأمراض بأنواعها والقضاء على العشوائيات وتأسيس ثقافة احترام الرصيف وهناك قياسات هندسية حول أعمار الأرصفة والطرق ومعدل استهلاك الأسفلت ونظام (العوايد) وهى تواجد محطة استقبال للسيارات المقبلة للمدينة فهى تمثل حصيلة إيرادية لكل من يستخدم طرق المدينة مقابل استهلاك كفاءة الطرق ولرفع معدلات انسياب المرور والحفاظ على البنية الأساسية، كما حققت فكرة (الشوارع الحرارية) وعدم وجود مطبات واحترام الأرصفة والأفرايز يتم تزيينها من خلال وحدة واحدة للبلاط واستحدثت نظام الإشارات المضيئة فلا توجد مرتفعات ومنخفضات، ومن أوائل أعمال البلدية مشروع المجارى واتجه القرار فى البداية على صرفها من خلال مصبين أحدهما السلسلة والثانى قايتباى إلا أنها استدركت هذه الخطة لعام 1945م حيث لجأت لعدم الصرف على البحر وأوصى مدير شركة مياه الإسكندرية عام 1902م بإنشاء مزرعة مجارى جنوب المدينة حتى لاتقع من أضرار بسبب صبها بالبحر وبدأ فتح ملف الصرف الصحى الذى تفجر فى عصر المحافظ الجوسقى ووصل لمعارك على الصفحات الكبرى بل نشرت كتب ضد المحافظ بعنوان «عدو الشعب».
نظام الحكم المحلى بكل مسمياته بعد إلغاء المديريات أصبح هناك إما محافظون من رحم السلطة أم من رجال السلطة الثورية أو من هم فوق السلطة أو من دار فى فلك السلطة أو أصبحوا تحت السلطة أو من سايروا السلطة وكانت النتيجة العشوائية فى قواعد الاختيار.
ووصل متوسط شغل المقعد فى بعض المحافظات لأكثر من عشر سنوات وهذا ما ينطبق عليه المأثورة الشعبية الفولكورية لأساطير جحا، ولم يكن استقرارًا لكنه هو الجحود بدمه ولحمه.. وأصبح المحافظ موظفًا أبديًا وفى نهاية المدة ينقض على مقعد وزير الحكم المحلى باعتبارها مكافأة نهاية الخدمة.
تضاعفت الجرائم فى حق المواطن نماذجها فى برقيات الحديقة الدولية وأخطاء هندسية فى تصميم الكورنيش وإطلاق الارتفاعات وتحويل المعالم لكتل أسمنتية قضت على المتخللات وحدوث خلل بيئى مثلما كانت رائعة أسامة أنور عكاشة فى (فضة المعداوي) التى أصبحت حقيقة مؤلمة وتحولت الأراضى الزراعية من اللون الأخضر إلى الزفت والقطران وأصبحت الأبراج هى لغة العمران فى مدينة الذوق الجميل.
أصبحت كلمة السر للوصول إلى المخالفة بتأشيرة (تصدق) فكورنيش الإسكندرية له خصوصية عن أى كورنيش بالعالم فهو مدرسة إنسانية ملهمة توصى بالإبداع والفلسفة والتجديد وحب الإطلاع والمتعة الراقية وبناء النسيج الاجتماعى المتلاحم.
على أرض الإسكندرية ولدت النجوم فتولى من أبنائها منصب رئيس الحكومة البطل محمود فهمى النقراشى وداهية الفكر السياسى إسماعيل صدقى وهو علامة مهمة فى السياسة المصرية ومنهم الرئيس عبدالناصر وممدوح سالم ومنصب الجامعة العربية عبدالخالق باشا حسونة والدكتور عصمت عبدالمجيد ولكل منهما استطاع أن يضع بصمة بقدر الاستطاعة لكن إسماعيل صدقى اتخذ قرارًا بإنشاء الكورنيش فى ظل حكم السلطنة حتى يرى العالم كله ثقافاته وأفكاره وهرولت المدارس المعمارية نحو العروس بدء من الإيطالية واليونانية والإنجليزية ونشأت البنوك والبورصات وانتعشت حركة المعمار وشيدت القصور والمساجد والكنائس وحرص إسماعيل صدقى أن تكون هناك قيود للارتفاع حفاظًا على طابع المدينة وحظرت أى تعليقات على الكورنيش لتحقيق تدفق آمن للهواء وابتكر نظرية (الاتساق البصري).
الكورنيش الذى أنشأه إسماعيل صدقى عام 1911م يمثل من الناحية الجمالية الواجهة البحرية النادرة وتتميز عن مثيلاتها سواء الريفيرا الإيطالية أو الفرنسية إنها اتخذت طابعا جمع بين ثقافات الأعراف فى العالم وبحيرة شاطئ المنتزة بقصره الشهير وقصر رأس التين ديوان الحكم وقام المصمم الإيطالى لانتيمارو وحاول أن يصبغه بالطابع الإيطالى لكن ماحدث عاكس للبيئة المصرية بتفاعلتها الحضارية.
تعرضت المدينة لهزات منها أخطر قرار سياسى وهو تأميم قناة السويس وهناك قيادات مستنيرة تحملت المسئولية بفكر مرن مثل المحافظ الأسطورى حمدى عاشور وأحمد كامل وممدوح سالم لكن خلت دائرة الاهتمام السيادى رغم تولى هذا المنصب قادة وشخصيات محترمة منهم عبدالمنعم وهبى واللواء عبدالتواب هديب وجاء أبوالتخطيط الدكتور محمد فؤاد حلمى الذى أسس الفكر التخطيطى العمرانى لكن اصطدمت طموحاته بمواقف مبدئية جعلته يترك العمل بعد أن وقع الصدام وجاء صدام فلسفة وحرص الدكتور نعيم أبوطالب بأن صلاحيات المحافظ هى سياسة رئيس الدولة بالمحافظة واندلعت المعارك حيث تدخلت الحكومة المركزية بنقل اللواء جلال فهمى من منصب رئيس هيئة الميناء وقال الرئيس السادات فى مؤتمر عام إننى قلت على سبيل الدعابة للمهندس سليمان متولى إن عليك ألا تدخل الميناء إلا بعد أن تخطر نعيم أبوطالب واشتعلت المعركة السياسية وجاء بعده الفريق سعد الماحى الذى أعتبر أنه ينتظر الموعد الذى يقال له قبلنا استقالتك، وجاء فوزى معاذ بآمال كبيرة لكنها تقاطعت مع معركة تكسير النظام بينه وبين النواب شكلت على أعقابها لجنة لتقصى الحقائق ولم تتحمل ظروفه الصحية مثل هذه المواقف ولبى نداء الرحيل، وقرر الرئيس مبارك اختيار المستشار إسماعيل الجوسقى بتعليمات محددة هو تجميد الموقف فى المدينة وكعادة المدينة فأمنها أفصحت عن مشاكلها وتفجرت ولم يستوعبها المحافظ وتعرضت لهجمات عنيفة أطاحت به.
أروع مشهدين رسخا فى أعماق الإنسان المصرى أن رئيسه يتنقل فى تحركاته أثناء تواجده فى الصيف بالهليوكبتر وتلتف القلوب والحناجر والهتافات تحيطه فجرًا وهو يشتغل فى مشهد بعيدًا عن المظهرية والطقوس الرئاسية ويرسل للناس أعمق معنى يقول فيها لشعبه الذى يحيطه أننى أرجو منكم جميعًا أن تعملوا على بناء وطنكم بالجدية ويقول لهم إننا حين نتحرك بمسيرة الوطن يكون دليلنا «الدراجة» بفارق السرعة مع التحديات بعد أن ألغينا فكر «السلحفاة».