• لماذا يفضل البعض «ثقافة الثورة» على «ثقافة الدولة»؟!
• ولماذا بضاعة الثورة رائجة فى أوساطنا، بينما ثقافة الدولة تعانى من الركود والكساد والاستهجان؟!
• ثقافة الثورة شاهدًا على تخلفنا عن العصر وأدواته، فالثورة أداة ماضوية لأحداث (التغيير) وانتفت من العالم الحديث.
• ولأننا لا نزال نعيش فى عصور (الماقبل) ما قبل السياسة، ما قبل الدولة، ما قبل الحداثة.
• ولأن الشعب لا يوجد سلفًا، لكنه يخترع وينتج، حيث يوجد فى البداية مجرد أفراد غارقين فى انتماءاتهم الأولى وغير منتظمين وغير جاهزين لاحترام القانون وأسس الاجتماع وقيمه، وعلى رأسها قبول الآخر المختلف وغير متخلقين بأخلاق العقد الاجتماعى.
• وعليك أولًا أن تنقلهم إلى الحالة الشعبية وتجعلهم قادرين على تجاوز انتماءاتهم الأولى إلى الدين والطائفة والأسرة والعرق والنوع والجغرافية والدخول بهم إلى رحابة الانتماء الوطنى الوهاج والإنسانى العارم.
• عليك أن تحولهم من كائنات طائفية قابلة للصدام فقط إلى كائنات مدنية قابلة للتعايش وقبول التعدد والمغايرة والانتظام واحترام القانون وإدراك الفارق بين المجالين الخاص والعام والتخلق بالأخلاق الدستورية.
• فنحن لم ندخل بعد إلى (الزمن الدولوي) إلى عصر السياسة، ولم نفهم بعد قيمة الدولة كأداة للأمة فى تحقيق مصالحها وكأداة لضبط الاجتماع وتنظيمه وضبط المجال العام، ولم ننجح بعد فى بناء تلك الدولة فى عقولنا وفى ثقافتنا وفى وعينا.
• نجهل معنى الدولة ومفهومها ونجهل بالتالى أدوارها وحدود تلك الأدوار، دولة الدستور (العقد الاجتماعى) والمؤسسات والقانون والمواطنة والحقوق والواجبات، بينما كان جل مسعى أعدائنا وهدفهم منذ بدايات القرن الماضى وطواله وحتى تاريخه فى أن ينشئوا (دولة)!!
• لم ننجح فى بناء مؤسساتنا المدنية وخصوصًا الأحزاب السياسية، لم ننجح فى بناء أحزاب سياسية حقيقية تحوى لجانا نوعية متخصصة وحكومات ظل جاهزة لإدارة شئون البلاد فى أى وقت حالة حيازتها على تفويض الناخبين وثقتهم.
• ولا نكاد ندرك أهمية ذلك ونركن إلى فراغ سياسى مخيف وإلى استسهال طلب قائد الجيش عندما تخطف الدولة منا وتتسرب تسرب الماء من بين الأصابع ويهدد بقاء الوطن ووجوده كى يترك جيشه ودوره ليدير لنا حياتنا ويخلصنا من أزماتنا «انزل يا سيسى مرسى مش رئيسى»!!
• الأدهى أننا لا نربط بين نجاحنا فى بناء أحزاب ومدارس سياسية واقتصادية وبين تطور أحوالنا وتحسن معيشتنا؟!
• نحن فقط نشتكى ونئن، ولدينا قدرة هائلة على الهدم ونشر اليأس والإحباط لكننا لا نعرف كيف يكون البناء وما هى كلفته ولا نرتاح لدفع كلفته؟!
• ولكن: ما هو العصر الدولوى؟!
• هو العصر الذى يؤمن بالتحرى وبالدقة وبالدأب وبالسهر وبالتفكير وبالتفكيك وبالتدقيق وببذل المجهود المضنى لإحداث تغيير ولو بسيط، لكنه مستمر ومتراكم ويؤدى خطوة خطوة إلى التحسين والتطوير.
• وهو العصر الذى يؤمن بالدراسة والبحث وبالتغيير المدروس والرصين والصغير واليومي.
• وإدراك بأن التغيير عملية مستمرة وتراكمية ولا تحدث بين يوم وليلة كما يتصور البعض من عاشقى التغيير بالثورة.
• فالاعتقاد بأن الثوره أداة تغيير جذرية تنقلك فجأة من القاع إلى القمة، من التخلف إلى التقدم اعتقاد مثير للشفقة.
• أكذوبة كبرى أن تظن أن لحظة الثورة هى لحظة انقطاع مع الماضي، فالماضى لا يمضى بكل هذه السهولة واليسر.
• والثورة حسب صديقى المفكر «شادى فؤاد» وضعية انفجارية لانسداد الأفق التى تفضى إلى تجاوز الأوضاع المأزومة.
• والثوره غالبا ما تصطدم باتساع البون بين سموات الحلم ووديان الواقع وقيعانه.
• وماضى الثورة التى تعدنا بالانقطاع عنه غالبا لا يمضي، ومستقبلها (البهي) غالبا ما لايأتى أبدأ.
• فالرؤية غائبة أصلا للثوار ومعرفتهم بالقاع منعدمة وإدراكهم للحالة بائس، وامتلاكهم للحلول الناجزة مجرد وهم كبير، وخطابهم لا يخلو من ادعائية، يدعوننا إلى التوحد دائما بينهما هم مختلفون وفوضويون، متمزقون ومرضى بالأنا وبعبادة الذات!!
• كذلك فالعقل لدينا عقل قروسطي، وعاجز عن إنتاج المعرفة ومستعص على التغيير، ومضرب عن التفكير، ورافض للفهم ومعاند وليس لديه قدرة على نزع البداهة ومفارقة التبسيط والأشكلة وطرح الأسئلة وجمع المعلومات والتقصى ومحاولة الإجابة عنها والتفكيكية وإعمال العقل والتخلص من الأوهام وهو عقل غير دقيق وترادفى وكسول وخلاصى وخيالى واستسهالى على طريقة (على بيه مظهر.. وهبا فوق).
•الفرد لدينا يفكر بأسلوب الطفرة والخلاص، ويفكر بطريقة (المصباح السحري) يحكه فيحضر العفريت فتطلب على الفور فتتحقق الأحلام!!
• إنه الميل إلى تحقيق الأحلام دون أقل مجهود والانعتاق من واقعك فورا دون أن تدفع أى ثمن.
• عقل يفكر بأسلوب ألف ليلة وليلة و(بساط الريح) الذى سينقلنا سريعا من حال إلى حال!!!
• وفى النهاية الثورة مجرد (فورة) تعدك بالجنة وبالفراديس لكنها وغالبا ما تصطدم (بقيعان) الواقع ومنحنياته وتعقيداته ومآسيه.
• وللأسف الدراما لدينا أفسدت العقل وساعدته على التمادى فى كسله وغذت أوهامه، واستثمرت جهله وإيمانه بالخرافة وأبعدته تماما عن الموضوعية والجدية والحداثة.
• مسلسل ٣٠ حلقة يتكلف ملايين تنتجه الدولة ذاتها، ليحكى لك قصة ممرضة طببت ثريًا فوقع فى غرامها وتزوجها وفتح لها أكبر مستشفي، فتحولت الممرضة الفقيرة التى تخدم فى البيوت فجأة إلى صاحبة مستشفى تعين وتطرد وتأمر وتستغنى عن كبار الأطباء
• وواحد وجد كنزا وواحد وجد آثارًا وباعها بملايين وواحده غنية وثرية عشقت «ضائع « ورفعته إلى عنان السماء فجأة، وسلامة فى خير.... ليه ؟! لأنه وقع عليه الاختيار صدفة ليمثل دور سلطان بالأجرة ويعيش فى نعيم مقيم أياما معدودات وهو عامل كحيان فى محل وابور جاز؟!
• والثورة أكلافها باهظة لكنها سهلة ويسيرة هى الأخرى ليس مطلوبا منا أكثر من النزول إلى الشوارع والهتاف.
• ولكن متى تحدث الثورة؟!
• تحدث الثورة عندما تنفصل الدولة عن أدوارها الأساسية وتنشغل عن مشكلات الواقع وعذابات الناس اليومية والآنية.
• وعندما ينفصل خطاب الدولة عن مشكلات الواقع الذى يعيشه الناس.
• تحدث الثورة عندما تذهب الدولة بعيدا عنك وعن شواغلك ومعاناتك اليومية وتتركك تعيش فى عذابات غارقا فى قيعان قذرة سحيقة دون أدنى اهتمام.
• بينما هى هناك بعيدا تبنى لك الأهرامات، وتعدك بالخلاص وبالجنة فى المستقبل وتطلب منك الصبر الصبور وانتظار الرخاء الموعود والاحتمال حتى نخرج من عنق الزجاجة
• فتصبح الدولة هى الأخرى مثل الثورة تعدك بالجنة والخلاص، فتتحول الدولة إلى «طوبي» وخيال مثلها مثل الثورة.. فتحدث الثورة.