شهد الربع الأول من العام الماضى تصاعدًا كبيرًا فى التوتر بين دول حوض شرق البحر المتوسط، لا سيما بين تركيا وجمهورية قبرص اليونانية من جهة، ولبنان وإسرائيل من جهة أخرى، وذلك نتيجة للتنافس القائم بين هذه الدول على استغلال الموارد الطبيعية الموجودة فى هذه المنطقة، وعلى رأسها الغاز. ففى يناير ٢٠١٨ علق وزير الدفاع الإسرائيلى على منح لبنان ثلاث شركات أجنبية رخصًا للتنقيب عن النفط والغاز فى المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة بأنه تحٍّد سافر وعمل استفزازي، وأن قبول الشركات الأجنبية بهذا الأمر هو بمنزلة خطأ فادح. وردَّت الحكومة اللبنانية على هذا التصريح بسلسلة من التصريحات التى تدافع فيها عن حقها.
أما على الصعيد اليوناني - التركى للنزاع، فقد فتحت قبرص اليونانية الباب لشركة «إيني» الإيطالية للتنقيب عن الغاز فى إحدى المناطق المتنازع عليها مع تركيا، فقامت البحرية التركية باعتراض السفينة التابعة للشركة الإيطالية ومنعتها من العمل، وبذلك استخدمت تركيا للمرة الأولى فى تاريخها الحديث القوة لاعتراض سفينة أوروبية. الأمر الذى أدى إلى ردود أفعال من قبل قبرص اليونانية واليونان ومجلس الاتحاد الأوروبي، وردَّ المسئولون الأتراك بالتعهد بالتعامل بحذر مع هذا الموضوع.
وبالنظر إلى أهمية غاز شرق حوض البحر المتوسط قدَّرت هيئة المسح الجيولوجى الأمريكية فى عام ٢٠١٠ احتمال وجود ما يقرب من ١٢٢ تريليون م٣ من مصادر الغاز غير المكتشفة فى حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل وغزة وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب ١٠٧ مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تبقى فى إطار التقديرات ولا تشمل أيضًا الأرقام المتعلقة بحوض دلتا النيل، إلا أنها لم تأت من فراغ، فخلال العقد الماضي، جرى اكتشاف العديد من حقول الغاز فى منطقة شرق المتوسط. والتى بدأت باكتشاف حقل تمار فى عام ٢٠٠٩ قبالة ساحل إسرائيل، ومع توالى الاكتشافات، رفعت هذه التقديرات آمال دول المنطقة، وفتحت شهية شركات النفط والغاز، وألهبت التنافس الإقليمى على الموارد، وجذبت انتباه القوى الدولية إلى ثروة إضافية وبؤرة صراع محتملة. كما أن اكتشاف الغاز فى هذه المنطقة جاء مترافقًا مع مشاكل متعددة، لعل أهمها:
غالبًا ما كان الاتفاق على ترسيم الحدود وتحديد الحقول مع الدول المجاورة معلقًا، حتى أصبحت المسألة مهمة للغاية، وباتت موازين القوى أكثر أهمية فى المعادلة.
لا يضمن اكتشاف الغاز بحِّد ذاته للدولة صاحبة الحق الاستفادة منه سواء داخليًّا أو للتصدير، بل يجب أن يكون الاكتشاف مجديًا، وتدخل عوامل متعددة فى هذه المعادلة أهمها وجود سوق للاستهلاك وبنية تحتية مناسبة، يضاف إليها وجود مشترٍ وطرق نقل إلى الأسواق الخارجية فى حال كانت الكميات المكتشفة تفوق حاجة الاستهلاك المحلية.
يتميز الصراع على الغاز فى شرق المتوسط بتداخل أبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والقانونية والأمنية مع بعضها البعض، وهو ما يجعله صراعًا معقدًا وقابلاً للاشتعال لا سيما مع كثرة اللاعبين المعنيين به محليًّا وإقليمًّيا ودوليًّا، ووجود خلل هائل فى توازن القوى بين أطراف الصراع بالإضافة إلى مصالح اقتصادية ضخمة للمنخرطين فيه.
وبالنظر إلى اللاعبين الدوليين نجد أن:
أ- الاتحاد الأوروبى أولويته تعزيز أمن الطاقة لتنويع مصادر الواردات وكذلك تنويع طرق التوريد لا سيما مع تدهور العلاقات الأوروبية - الروسية خلال السنوات الأخيرة. وفى هذا السياق، يسهم غاز شرق المتوسط فى تحقيق هذه المعادلة ويخفف من الاعتماد شبه الكلى على الغاز الروسى لا سيما بالنسبة لدول شرق وجنوب أوروبا، ويبدو الاتحاد حاضرًا فى المعادلة من خلال بعض الدول التى تنتمى إليه مثل قبرص اليونانية واليونان، ومن خلال شركات التنقيب عن النفط والغاز.
ب- روسيا: بالرغم من أن الغاز فى شرق البحر المتوسط لا يشكل بديلاً عن الغاز الروسى ولا يزاحمه، إلا أن موسكو تريد أن تضمن احتكارها السوق الأوروبية من خلال حضورها أيضا فى أى مشاريع غاز مكملة أو بديلة بحيث لا يؤثر ذلك سلبًا عليها، وهذا هو ما تفعله بالتحديد، فموسكو حاضرة فى الصراع على الغاز فى شرق البحر المتوسط من خلال شركات التنقيب عن الغاز (حالة لبنان) ومن خلال التمويل المالى (حالة قبرص اليونانية واليونان).
ج- أمريكا: تنظر إلى المنطقة من خلال إطار أوسع يتعلق بأولوياتها فى الشرق الأوسط وترتبط غالبًا بضمان تدفق الطاقة وحماية إسرائيل، فالولايات المتحدة حاضرة فى منطقة شرق المتوسط من خلال شركاتها ومن خلال علاقاتها ومبادرات الوساطة التى تقوم بها بين بعض أطراف النزاع، بالإضافة إلى انتشارها العسكرى فى الشرق الأوسط، والمثير للاهتمام أن نسبة اعتماد أمريكا على نفط المنطقة آخذ فى التراجع فى السنوات القليلة الماضية، كما أن صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا آخذة فى الازدياد، وقد يؤثر ذلك على نظرتها إلى غاز المنطقة مستقبلاً.
أيضًا لا يتوقف الصراع بين دول شرق المتوسط على ترسيم المناطق والحدود، وإنما يمتد إلى استغلال الثروات أيضًا بما فى ذلك عملية تصديرها إلى الخارج. فباستثناء مصر وتركيا، ليس هناك استهلاك ضخم للغاز من قبل دول المنطقة، ولذلك فإن كل الخيارات الممكنة لتصدير الغاز من تلك الدول تنظر بشكل أساسى إلى الدول الأوروبية كسوق محتملة لكونها مستهلكًا ضخمًا للغاز من جهة، ولقربها الجغرافى نسبيًا من المنطقة مقارنة بمناطق الاستهلاك الكبرى فى شرق آسيا.
لا يستطيع بعض اللاعبين الذين يتطلعون إلى التصدير الاعتماد على أنفسهم مباشرة، وذلك إما بسبب تواضع كميات الغاز المكتشفة، وإما بسبب الافتقار إلى البنية التحتية اللازمة للتصدير، أو لارتفاع التكاليف. وباستثناء مصر، تكاد هذه المواصفات تنطبق على كل الدول الأخرى، وهو ما يحتم على اللاعبين المعنيين النظر فى خيارات التصدير المشتركة التى تعتمد على دمج مصادر الغاز المكتشفة وعلى استغلال بنية تحتية قائمة.
فإذا ما كان الغاز القبرصى مثلاً سيخصص للتصدير لأوروبا، فهو يحتاج إلى استثمارات هائلة فى إنشاء محطات التسييل، إضافة إلى خطوط النقل وضمانات لشراء الغاز بشكل مسبق من قبل مستهلكين. وتعتبر هذه العملية مكلفة وتحتاج إلى وقت وفيها مصاعب تقنية ولوجستية وأمنية، وهو الأمر نفسه الذى ينطبق على الحالة الإسرائيلية.
تمكنت مصر من قلب المعادلة الخاصة بها بعد اكتشاف حقل «ظهر» العملاق فبما أن لدى القاهرة بنية تحتية جاهزة لأعمال التصدير من بينها منشآت لتسييل الغاز على ساحل المتوسط، فهذا يعنى أن القاهرة لن تحتاج إلى استثمارات ضخمة لنقل فائض الغاز إلى الأسواق الخارجية. الأفضلية الموجودة لدى مصر من الناحية اللوجستية بالإضافة إلى الدوافع السياسية لاستخدام ملف الغاز، أغرت لاعبين آخرين بالانضمام إليها من بينهما اليونان وقبرص، ولعل هذا ما يفسر التفاهمات الثلاثية المتزايدة بين هذه الأطراف.
وعلى الرغم من الاختلال الكبير فى موازين القوى بين تركيا وقبرص اليونانية، إلا أن الجانب القبرصى يمتلك أربعة معطيات، هي: الدعم المضمون من قبل اليونان، وعضويته فى الاتحاد الأوروبي، والاتفاقات الإقليمية مع مصر ولبنان وإسرائيل، وإعطاء رخص التنقيب لعدد كبير من الشركات التى تتبع فى الغالب للقوى الكبرى وذلك فى محاولة لربط مصالح هذه الدول بمصالح قبرص اليونانية، بحيث يشكِّل ذلك رادعًا للجانب التركي. وتدرك أنقرة أن توقيع قبرص اليونانية اتفاقات ترسيم للمنطقة الاقتصادية الخالصة مع مصر ولبنان وإسرائيل يهدف إلى أن تحصن الأخيرة نفسها أمام المطالب التركية لكى يصبح ذلك أمًرا واقعًا يتجاوز قدرتها على الرد.