الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرضا بين الطموح والجنوح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
القيم الدينية والإنسانية والحياتية هى البوصلة التى تحدد اتجاهات وتوجهات الإنسان فى حياته وسلوكياته، وكل شخص يحاول أن يقنع ذاته قبل أن يقنع الآخرين أنه ما زال متمسكًا بهذه القيم وتلك السلوكيات، وكثيرًا ما يكون الحديث عن هذه القيم والتمسك بها مجرد كلام عكس ما هو قائم فى الواقع فيصبح هذا الكلام نوعا من الإسقاط النفسى الذى يريد إظهار عكس ما هو موجود، فالقيم والمبادئ والأخلاقيات ليست شعارات تُردد ولا هى أقوال مرسلة تُتلى طوال الوقت ولا هى أمنيات وتخيلات لا نضعها فى إطار وطريق التحقيق الفعلى والعملى فى حياتنا.
والرضا أحد أهم القيم التى تراود الإنسان ويتمنى أن يكون مؤمنًا ومقتنعًا به قولًا وفعلًا، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه بغير قناعة بالقيمة وأن تكون هذه القناعة نابعة من الداخل حتى يعيشها واقعًا ملموسًا.
الرضا قيمة دينية وإنسانية عرفتها الأديان وأدركها الإنسان بحسه وبتجاربه العملية، فالحديث النبوى يقول «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك» ويقول الكتاب المقدس «حياة الجسد هدوء القلب ونخر العظام الحسد» ويقول أيضًا «لتكن سيرتكم خالية من محبة المال، كونوا مكتفين بما عندكم لأنه قال لا أهملك ولا أتركك» وغيرها من الآيات الإنجيلية مثل «التقوى مع القناعة تجارة عظيمة». فالرضا قيمة ذاتية تخص الشخص وحده دون الآخرين، والإيمان بالرضا إيمان ذاتى وقلبى وروحى وهو الراحة كل الراحة والسعادة بلا حدود، ولا يكون الرضا لأحد لا يثق فى عدالة الله ولا يثق فى نفسه بلا حدود وبدون غرور، فالثقة بالنفس مدخل للاتضاع والغرور هو بذور لكل الخطايا، كما أن الرضا لا يتناقض ولا يختلف مع الطموح ولا يعوقه، بل الرضا يكون الهادى والمُهذب لهذا الطموح حتى يكون فى إطاره الصحيح والمشروع والشرعي، فالكثير من الطموح يكون جامحا وجانحا حتى يجعل الإنسان يخسر نفسه ويخسر الآخرين، لكن الطموح الراضى هو الذى يدفع الإنسان إلى مزيد من العمل الشريف والكريم الذى يضيف للطامح وللآخرين، فالطموح قيمة واختيار ذاتى لتحقيق الذات لأقصى درجة ممكنة، ولكن إذا لم يكن هناك سياج وقيم ضابطة مثل الرضا فسيظل الطموح جانحًا بلا حدود فيتحول إلى فعل لا يهدف لغير تحقيق هذه الذات حتى ولو على حساب الآخرين حتى ولو كان الآخرون هم العالم كله مثل تجار الحروب بكل أشكال وأنواع هذه التجارة، ولذلك فالرضا قيمة ذاتية نفعها على القانعين بها، والرضا غير الصبر، فالصبر هو رضا مؤقت على ما فيه الإنسان من محن وتجارب حتى تزول هذه المحن وتنتهى تلك التجارب، ولذلك الرضا قيمة أعلى من الصبر، فالرضا هو الإيمان والاقتناع بأن ما حدث للإنسان لا بد من قبوله والمعايشة معه والرضا به، فالمرض تجربة قاسية على الإنسان بلا شك والصبر على المرض نوع من القبول المؤقت لاستضافة هذا الضيف غير المرغوب فيه، فينتظر الإنسان الوقت الذى يغادر فيه هذا الضيف، ولكن الرضا بالمرض هو أعلى أنواع المقاومة والمواجهة لهذا المرض، فهناك أمراض مستعصية وخطيرة وعلاجها الأول هو الروح المعنوية وبعبارة طبية هى قوة وتقوية المناعة فى الجسم وهنا يكون الرضا هو الدواء الأهم لإعادة هذه المناعة الطبيعية الربانية المرتبطة بالنفس التى تؤثر إيجابيًا فى جسد المريض، كما أن الرضا هو العاصم من الكثير من الأمراض النفسية كالحقد والحسد وهى كلها أشياء سلبية ولها مردود سلبى يصل إلى سلوك أكثر سلبية يمكن أن يترجم إلى فعل جنائى فى غالب الأمر، فهذه الأمراض النفسية الخطيرة تبرر السلوك السيئ من انحراف وفساد، فلا يمكن لإنسان جد فى عمله وأخلص له وأرضى ضميره وتمسك بالقيم والأخلاقيات ألا يجد حالة الرضا جزءا من تكوينه النفسي، ولكن الحاسد والحاقد لا يرى غير الآخر الأغنى والأحسن والأشهر ويريد أن يكون مثله، فلماذا هذا وأنا لا؟ فيصبح الحقد والحسد بديلا الرضا الذى يدفع إلى العمل والإخلاص ويساعد على الطموح فيصل الإنسان لما يريد، ويمكن أن يكون أكثر مما يريد من خلال الرضا. والإشكالية هنا أن الهموم والضغوط النفسية سببها عدم الرضا فقد لا تحصل على ما تريد وحتى لو حصلت على ما تريد قد لا يعطيك ذلك الرضا التام الذى تأمله، فالصورة التى تخيلتها أنت قبل تحقيق الهدف كانت أبهى وأحسن من الواقع الذى حققته حتى بعد حصولنا على ما نريد، نظل نعانى من قلق وشدة خوف من زوال ما تحقق، وهنا الطموح الجامح يجعل الإنسان غير راض ولا قانع بل يكون شعاره هل من مزيد؟ مثل الذى يشرب مياها مالحة مهما شرب لا يرتوى البتة، ولكن الرضا هو الذى يُهذب ويُقوم هذا الطموح المطلوب، فلا حياة بلا طموح وبلا أمل وبلا أمنيات، ولكن كل هذه يتنازعها قيمتان أساسيتان وهما الرضا والقناعة من جهة وعدم الرضا وعدم الإيمان بالقناعة من جهة أخرى، فالطموح مع الرضا هو الطموح المشروع، أما الطموح مع عدم الرضا والقناعة هو الطموح الجانح وغير المشروع ويؤثر على المجتمع، فعلى سبيل المثال مشكلتنا مع الفساد الذى يرتبط بعدم الرضا أو الطموح الجانح فنرى السمة السائدة الآن، وللأسف، ليست فى الطموح المشروع والمطلوب ولكن السائد هو الاغتناء بلا تعب والتملك بلا مشروعية والوصول بلا تأهيل؛ ولذا انهارت القيم وسادت السلبية وانتشر الفساد.
نحن نحتاج إلى العمل والإنتاج المثمر الذى ينتج الرضا والقناعة، ولا نحتاج إلى الوصولية التى أنتجت الحسد والحقد وأسقطت القناعة والرضا اللذان هما الطريق لمجتمع صحيح يعرف القيم ويتمسك بالأخلاق ويسعى إلى التقدم والرقي. حمى الله مصر وشعبها العظيم.