تخيل عزيزى القارئ لو أنك وضعت عصابة فوق عينيك، ستواجه بعض المشاكل إذا قررت التحرك بضع خطوات، لكنك ستظل قادرا على إدراك ما يدور حولك بفضل حاسة السمع؛ بالمناسبة الكفيف المحترف، ذلك الشخص الذى ولد فاقدا حاسة الإبصار لن يعانى أي مشكلة فى الحركة فلقد تعود منذ ولادته المشى فى الظلام الدامس مستعينا بجملة حواسة اليقظة لتجاوز ما يعتبره مشكلة صغيرة وهى فقدان القدرة على رؤية الصورة.
لكن ماذا لو تخيلنا أننا وضعنا صمامات فى آذاننا لبعض الوقت، ثم بدأنا نتحرك فى الشارع بين السيارات والماره ؛ هل سيكون بوسعنا إدراك ومعرفة كل ما يحدث حولنا دون حاسة السمع رغم أن أعيننا ترى كل شىء بوضوح؟!
ماذا لو وقع شخص أصم أبكم فى مشكلة ما؟! كيف سيعبر عن تلك المشكلة؟ كيف سيدافع عن نفسه إذا كان متهما؟! كيف سيطالب بحقه؟!
سيقول أحدهم بإمكانه كتابة كل مايريده للمعنيين، حينها لن يكون هناك مشكلة!
وهذا القول صحيح تماما ولكن ليس فى مصر غالبية الصم وعددهم يراوح الأربعة ملايين مواطن لا يجيدون القراءة والكتابة، فلسبب غير معروف دأبت وزارة التربية والتعليم على اختيار معلمين للغة العربية يجهلون لغة الإشارة فى مدارس الأمل التى يقصدها الأطفال ذى الإعاقات السمعية لذلك يتخرج غالبية الصم بمدارس التعليم الفنى وقد تعلموا بالكاد كتابة أسمائهم.
ملحوظة من النادر أن تجد أصما يجيد القراءة والكتابة وسيرجع الفضل غالبا إما لوالديه أو لأنه كان محظوظا فتلقى تعليمه الأساسى قبل أن يفقد حاسة السمع.
الجريمة التى لا تزال ترتكب داخل مدارس الصم جعلت من لغة الإشارة تجارة رابحة وسلعة يتلاعب بها الجشعون خاصة أن أعدادهم لا تتجاوز بضع عشرات على مستوى الجمهورية.
وفى حال وقع الأصم فى مشكلة ما وجد نفسه مجبرا على دفع مبالغ مالية تبدأ من ألفي جنيه وتصل إلى عشرة آلاف جنيه لمترجم إشارة حتى يصحبه إلى قسم الشرطة أو ساحات القضاء وفى أحيان أخرى إلى المستشفى ليترجم إلى الطبيب ما يشعر به المريض الأصم من وجع وألم.
تخيل أنك مجبر على دفع مئات وآلاف الجنيهات لشخص يقوم بدور لسانك للتعبير عما يعتريك، أو للدفاع عنك ؛ هذا بالإضافة إلى ما ستدفعه كمقابل للخدمة التى ستحصل عليها، سواء كانت المحامى أو الطبيب أو حتى رسوم التقاضي.
أضف إلى كل ذلك عزيزى القارئ أن المواطن الأصم شأنه شأن باقى إخوانه من ذوى الإعاقات، لا يحظى بفرصة عمل بسهولة ولو حالفه الحظ كان أجره الأقل بالنسبة لغير الأصم رغم قيامه بنفس المهام.
بهى الدين أحمد أصم جاوز السبعين ربيعا من عمره، وجد نفسه فى نزاع قضائى، لحماية حقه فى ميراث أبيه بعد اكتشاف أبنائه قيامه بالتوقيع على مستندات تفيد تنازله عن ميراثه فى غياب مترجم إشارة ينقل محتوى تلك المستندات.
وتتكرر مشكلة عم بهى كل يوم مع عشرات الحالات المشابهة، خاصة وأن غالبية الصم قد يعزفون عن المضى فى إجراءات التقاضى للحصول على حقوقهم بسبب عدم قدرتهم المادية على استجلاب مترجم إشارة علاوة على أتعاب المحامين، وهناك مشكلات أكثر تعقيدا يواجهها الأصم إذا كان متهما حيث يقف المحقق حائرا عليه أن يخمن الوقائع حتى يأتى مترجم إشارة.
ربما كان عم بهى محظوظا نوعا ما، لأن أحد أبنائه مترجم إشارة، فقد كفت هيام والدها مشقة تدبير أجر المترجم، وقد أرسلت لى اقتراحا من واقع خبرتها العميلة لحل مشكلة أكثر من أربعة ملايين مواطن مصرى من ذوى الإعاقة السمعية.
تقول هيام عدد مترجمى الإشارة لا يزيد على مئة شخص على مستوى الجمهورية مما سمح ببعض الممارسات الاحتكارية خاصة من قبل أولئك الذين لم يعايشوا المشكلة عن قرب من خلال ذويهم وأقاربهم، ويواجه الأصم مشكلة غياب المترجم فى أغلب الدوائر الحكومية والخدمية خاصة فى حالات الطوارئ.
يتلخص اقتراح هيام فى عدة أمور تطرحها جريدة «البوابة» من خلال هذه السطور على المعنيين فى الحكومة.
أهمها أن تقوم وزارة الاتصالات بتوفير خدمة الفيديو كول على مدار الأربع وعشرين ساعة مع أقسام الشرطة والنيابات والمستشفيات العامه، بما يشبه خدمة العملاء فى أى شركة أو بنك بحيث توفر الوزارة مترجم إشارة ككول سنتر تبادر الجهة التى يتوجه اليها الأصم بالاتصال فورا بهذه الخدمة عن طريق الفيديو كول حيث يبدأ الأصم بالحديث مع المترجم الذى يقوم فى نفس الوقت بترجمة الكلام منطوقا إلى المسئولين المعنيين فى قسم الشرطة أو المستشفى أو غيرها من الجهات الخدمية.
كذلك تقترح هيام أن تقوم الحكومة بتوفير محامين للدفاع عن الصم باتفاق ما يتم إبرامه مع نقابة المحامين على أن تقوم الدولة بتحمل أتعاب المحامى فى حالة الأصم الفقير وكذلك توفير مترجم الإشارة، وتبرر هيام هذا المطلب بوجود وقائع كثيرة سجلت تلاعب المحامين بموكليهم من الصم بالاتفاق مع مترجمى الإشارة منعدمى الضمير لذلك من الضرورى أن تقوم الدولة وفق صيغة قانونية ما بتوفير المحامى ومترجم الإشارة لضمان عدم التلاعب بحق الأصم.
وتؤكد هيام أن هذا الدور الاستثنائى للدولة سيكون بمثابة تعويض بسيط لمواطنيها الصم عن إهمالها وتقصيرها فى تعليمهم القراءة والكتابة، فالأمية التى يعانيها غالبية الصم من صنع وزارة التعليم ؛ فليس أقل من أن تتحمل الدولة مسئولية توفير آليات تضمن حماية حقوقهم لحين إصلاح حال التعليم والمعلمين فى مدارس الأمل.