سافر من المنصورة إلى إيطاليا، وهو يحمل مع مسطرته ومثلثه روحًا حالمة وقلبًا خفاقًا وأحاسيس شاعرٍ مفتون بلغته الجميلة. وحطت قدماه أرض فينيسيا الخلابة فجلس على أحد مقاهيها وهو لا يدرى أن القدر قد أرسل له فى هذا اليوم حورية فاتنة من البحر بجمال سحر عقله وسلب إرادته فأحبها من أول نظرة، وكتب فيها قصيدته التى أذابت الحديد بحرارتها وجعلت الموسيقى تغنى معها وبها بصوت من أروع ما سمعنا. لم يعرف ابن سوق الخواجات بالمنصورة المهندس على محمود طه أنه بقصيدته «الجندول» قد جعل الرومانسية تتكلم وتتحرك وتداعب قلوب المحبين برقة، وهو يصور فيها قصته مع حبيبته رائعة الجمال التى أسكرته بكلماتها ونظراتها فأحبها حبًا جارفًا بدأ من أول نظرة..
بين كأس يتشهى الكَرْمُ خمره
وحبيب يتمنى الكأس ثغره
التقت عينى به أولَ مرة
فعرفت الحب من أول نظرة
فحين مرت بجواره ابتسمت عيناه لتلاقى القلوب بلا موعد، وهى تحاول أن تثبِّت فى مفرق شعرها زهرة وتداعب خصلاته بيديها فى دلال فتأخذ معها جوانح قلبه ويحيطه عطرها بنشوة أسكرته..
مر بى مستضحكًا فى قرب ساقى
يمزج الراحَ بأقداح رقاقِ
قد قصدناه على غير إتفاق
فنظرنا وابتسمنا للتلاقي
وهو يستهدى على المفرق زهرة
ويسوى بيد الفتنة شعره
حين مست شفتى أول قطرة
خلته ذوَّب فى كأسى عطره
لم يصدق نفسه فهى بلا شك عروسٌ أتى بها البحر إليه بشعرها الذهبى وملامحها الشرقية الجميلة. إنسانة مرحة تتلفت فى دلال بجمال أخَّاذ فكأنه فى حلم جميل..
أين من عينى هاتيك المجالي
يا عروس البحر، يا حلم الخيال
ذهبى الشعر، شرقى السمات
مرح الأعطاف، حُلْوُ اللفتات
كلما قلت له: خذ. قال: هاتِ
ياحبيب الروح يا أنس الحياةِ
ما هذه الرومانسية الجميلة فى الوصف أيها المهندس العاشق!! لقد أحس ابن مدينتى الجميلة وجار مسجد النجار، أنه قد أضاع عمره قبل هذه اللحظة، وكأن التاريخ قد نساه أو أنساه كل ما مر فى حياته فلم يعد يتذكر إلا هذا اليوم الذى قابلها فيه..
أنا من ضيَّع فى الأوهام عمره
نَسِىَ التاريخ أو أُنسِيَ ذكره
غير يومٍ لم يعد يذكُرُ غيره
يوم أن قابلته أول مرة
لم يستطع عبد الوهاب أن يمنع نفسه من غناء كلمات المهندس الحالمة، ويرقص معها وبها بصوته الشجي. ولكن عبد الوهاب لم يذكر لنا الحوار الذى تم بينهما عن مصر وڤينيسيا..
قال: من أين؟ وأصغى ورنا
قلت: من مصر، غريب ها هنا
قال: إن كنت غريبًا فأنا
لم تكن ڤينيسيا لى موْطِنَا
دعته بعدها ليركب معها الجندول فى القناة التى تنساب بين بيوت فينيسيا القديمة. حينها هاجت نفسه توقًا إلى بلده الحبيب مصر، وتصور حبيبته معه وقد أخذها بخياله إليها لتركب معه مركبًا على صفحة نيلها الخالد، وكأنه يسابق معها النجوم على صفحة النيل الساحر بين ضفافه الخلابة. ليستعيد معها بخياله ذكريات حب كليوباترا المصرية لعشيقها الرومانى..
قلت، والنشوة تسرى فى لساني:
هاجت الذكرى، فأين الهرمان؟
أين وادى السحر صداح المغاني؟
أين ماء النيل؟ أين الضفتان؟
ثم يفاجئنا عبد الوهاب بالرقص بالموسيقى على أنغام الفالس المبهجة والجديدة على موسيقانا العربية والكلمات تقفز فرحًا مع صوته..
آه لو كنت معى نختال عَبرَه
بشراع تسبح الأنجُمُ إثره
حيث يروى الموج فى أرخم نبره
حلم ليل من ليالى كليوباترا
ثم يرسم المهندس العاشق صورة من أجمل الصور على صفحة النيل الفاتن، وهو يلف حبيبته بذراعة وهى على صدره والليل الحالم من حولهما يلفهما فى ينبوع من النور والجمال..
أيها الملاح قف بين الجسور
فتنة الدنيا وأحلام الدهور
صفَّقَ الموج لولدان وحور
يُغرقون الليل فى ينبوعِ نور
ما ترى الأغيد وضاء الأسِرَّة
دق بالساق وقد أسلَم صدره
لمحب لف بالساعد خِصره
ليت هذا الليل لا يَطلُعُ فجره
إن «الجندول» ينساب على نغم حالم ينبع من قلب مهندس عاشق يغلفه صوت كروان صادح فى زمن جميل كانت الرومانسية فيه تغلف القلوب بدفئها فتشع حبًا وتأجج الأحاسيس بجمالها فترد فرحًا. لقد عَصَفضتْ بقلوبنا يا ابن المنصورةِ الحالم، وسجلت بريشتك صورة عشق فريدة تذوب معها القلوب فى بوتقةٍ من البهجة والسعادة..
أين من عينيَ يا مهد الجمال
يا عروس البحر يا حلم الخيال...!!