رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع «4»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تكن نقدات عيسى بن هشام موجهة نحو مؤسسة واحدة، إيمانًا منه بأن استقرار البلاد وسعادة أهلها لا يمكن تحققهما إلا بسيادة قيمة العدالة، تلك التى لا تفرق بين أفراد المجتمع فى المساءلة والمحاسبة أو المكافأة والعطاء، وحرى بنا أن نوضح أن مقصد انتقادات عيسى بن هشام وصاحبه لمؤسسة الشرطة والبوليس لم يكن مدفوعًا بعداء شخصى أو تحزب أيديولوجى أو خصومة سياسية، بل كان غيرة على فضائل قد انحدرت وقيم قد انحرفت فأراد التنبيه على ضرورة تثقيفها وبعثها ثانية فى تلك المؤسسة المعنية بالاستقرار والأمن وتمكين العدالة من السيادة على كل السلطات – وقد راعينا فيما سوف نورده من نقدات الترتيب السردى فى نص المقامة وأهمية القضية المطروحة-.
كما أكد صاحب المقامة أن ذلك المقصد وتلك الغاية لن تتحقق هى الأخرى إلا بنزاهة وعفة القائمين عليها، وإلا باتت كل القيم التى نقدسها مجرد شعارات أو أمانى نتباكى على فقدانها أو غيابها ونحلم بتطبيقها، الأمر الذى يبرر تعويله على إعادة بناء الفرد من الداخل وتأهيله لحياة فاضلة قبل المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والأمن والمساواة، فشرار الناس وأسافلهم لا يحق لهم مطالبة المجتمع بمعاملتهم وفق دستور البررة والاستقامة، وذلك لأنهم لا يفقهون سوى لغة الشدة والقمع والاستبداد، وهى بطبيعة الحال لا تصلح لقيام المجتمعات وتمدنها. ولا ريب فى أن العدل هو الضامن الأول لانتماء الأفراد لهويتهم والسلام بين طبقات المجتمع وذيوع الحب بين الراعى والرعية.
فقد ساء عيسى بن هشام وصاحبه أحمد باشا أحوال رجالات النيابة الذين أجلستهم يد آثمة على كراسيهم بغير وجه استحقاق بداية من حداثة سنهم إلى فساد أخلاقهم فالعدالة سجينة فى طبائعهم، والمصالح مهدرة فى مكاتبهم، ورائحة الجور وفساد الذمم والإهمال تفوح من بين ملفات القضايا المكدسة أمامهم. وأين ذلك من مهام وظيفة ممثل النيابة الحقيقية ودورها بداية من حماية حقوق الأفراد والتزاماتهم تجاه القانون والمجتمع ومصالح الأمة ومرورًا بتمثيل الادعاء فى نظر القضايا والكشف عن الحقائق وتوضيح ما التبس وغمض من الأحداث أمام القضاء، ونهاية بتقديم تحقيقاتها ورؤيتها وأدلتها إلى المحكمة فتعينها بذلك على تحقيق العدل والفصل فى القضايا. ويصرح عيسى بن هشام بأن المجتمع المصرى لا يعانى من سوء بعض رجالات النيابة فحسب بل من الدخلاء الذين احترفوا المحاماة فلوثوا هذه المهنة بحيلهم الدنيئة وخدعهم للموكلين واتجارهم بمصالح الناس، ويقول فى ذلك مخاطبًا صاحبه الباشا: (المحامى هو وكيل الحكم والمخاصمة، يتكلم مكانك بما تعجز عنه، ويدافع عنك بما لم تعلمه، ويشهد لك بما لم يخطر ببالك، وصناعته هذه صناعة شريفة يمارسها كثير من الفضلاء اليوم بيننا، ولكن قد دخل فى هذه الصناعة جماعة ليسوا من أهلها فاتخذوا الخداع والاحتيال بضاعة للتكسب مثل هذا المحامى وسمساره) وكتبت النيابة والمحاكم ثم انتقل عيسى وصاحبه إلى المحكمة الأهلية فوصف ما يجرى بها، ثم عقد العديد من المقابلات التى توضح مفهوم الباشا عن المحكمة الذى قارن بدوره بين المحكمة الشرعية وغيرها، مثل الأهلية والعسكرية والمختلطة والتأديبية والإدارية والقنصلية وينتقد الباشا هذا الاضطراب وذلك التعدد فى المحاكم، قائلًَا: (ما هذا الخلط، وما هذا الخبط؟ وسبحان الله، هل أصبح المصريون فرقًا وأحزابًا وقبائل وأفخاذًا وأجناسًا مختلفة وفئات غير مؤتلفة وطوائف متبددة، حتى جعلوا لكل واحدة، محاكم على حدة، ما عهدناهم كذلك فى العصر الأول، مع دويلات الدول وهل انطمست تلك الشريعة الغراء، واندثرت بيوت الحكم والقضاء، اللهم لا كفران، ولعن الله الشيطان. ورد عليه عيسى قائلَا: لم ينسخ الشرع ولم يرتفع حكمه، بل هو باق على الدهر ما بقى فى العالم أنصاف وفى الأمم عدل، ولكنه كنز أهمله أهله ودرة أغفلها تجارها، فلم يلتفتوا إلى وجوه تشييده وتمكينه، وتمسكوا بالفروع دون الأصول، واستغنوا عن اللب بالقشور، واختلفوا فى الأحكام وعكفوا على الاشتغال بسفاسف الأمور وتعلقوا من الدين بالأغراض الحقيرة والأقوال الضعيفة، وتركوا الحقيقة إلى الخيال، وتعدوا الممكن إلى المحال، ولم ينتبهوا يومًا إلى ما تجرى به أحكام الزمن فى دورته، ولم يفقهوا أن لكل زمن حكمًا يوجب عليهم تطبيق أحكام الشرع على ما تستقيم به المصلحة بين الناس، وكانوا سببًا فى تهمة الشرع الشريف بخلل الحكم ووهن العقد وقلة الغناء فيه لإنصاف الناس فى معايشهم ومرافقهم على حسب ما تتجدد به حالات الزمن وتتحالف عليه أشكال العصور، ومن هنا تولدت الحاجة إلى إنشاء المحاكم الأهلية بجانب المحاكم الشرعية).
ويناقش عيسى صديقه الباشا قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، فبين عيسى أن القوانين الوضعية العلمانية لا تتعارض مع المقاصد الشرعية فى معظم أحكامها، وأننا مضطرون إلى ذلك بدافع الحاجة لجهود الفقهاء وغلق باب الاجتهاد هو الذى أدى إلى ذلك، وقد أقره عيسى – فى الوقت نفسه - على ضرورة وضع دستور خاص لمصر تنبثق منه قوانين توازن بين ثوابت الشرع واحتياجات الواقع والعصر، ولاسيما أن القوانين العلمانية التى تطبق فى مصر الآن – بداية من القرن العشرين- لا تخلو من بعض أحكام تناقض الشريعة، ولا سيما تلك التى تتعلق باللواط والزنا والدعارة، أو ما اختصت بالخلافات المالية بين العمال المصريين وشركات الأجانب، والفصل الإدارى وما يتبعه من لوائح وقواعد وعقوبات، أضف إلى ذلك قانون الجنايات الذى يفصل بين الخواجات والمصريين أيضًا، ذلك الذى يقضى فى القضايا بمقتضى قوانين الدولة التى ينتمى إليها الخواجة، وذلك لأن القضاة الأجانب لا يثقون فى تحقيقات البوليس المصرى أو النيابة. 
كما لم يسلم جهاز القضاء من نقدات عيسى، بل ذهب – ولاسيما بعد نطق الحكم على صاحبه المظلوم بالسجن والغرامة - إلى أن تعجل القاضى وعدم إعطائه فرصته كافية لسماع الشهود وممثل الدفاع هو الذى جعله يصدر هذا الحكم الظالم، ولكنه فى الوقت نفسه معذور لأن كشف القضايا التى يجب عليه البت فيها فى هذا اليوم تتجاوز الثلاثين. 
ويتراءى لى أن أهمية نقود عيسى بن هشام لهذه المؤسسات وتلك المواضع يمكن تلخيصها فى ثلاث مسائل، أولها: نقده لمعيار اختيار واصطفاء رجالات العدالة – وكلاء النيابة والمحامين والقضاة -، فهو يشير إلى ضرورة إيجاد آلية تؤهل المنوط بتعيينهم فى هذه الوظائف غير معيار الشهادات الدراسية التى تبرهن على تفوقهم فى جمع المعلومات وحفظها فحسب ولعله بذلك ينادى بطريق غير مباشر بضرورة وضع دستور ملزم فعال لضبط أخلاقيات كل وظيفة (أخلاقيات المهنة).
وثانيها: دعوته لفتح باب الاجتهاد لضرورة إبداع دستور مصرى تنبثق عنه قوانين تحمل الطابع الثقافى والعلمى والشرعى للمصريين، عوضًا عن فوضى القوانين والمحاكم المطبق فى العقد الأول من القرن العشرين. وأعتقد أن هذا الطرح يعد من بواكير المناقشات الحديثة لقضية القوانين العلمانية والحدود الشرعية تلك التى انتهت بوضع الدستور العثمانى العلمانى عام (١٩٠٨م) آنذاك.
وثالثها: هو الإشارة إلى بطء العدالة ووجود طبقة طفيلية تتمثل فى موظفى النيابة وسماسرة المحاكم ووكلاء المحامين وكتبة المحاكم، وجلهم لا يخلو من فساد الذمم والعبث وتعمد طمس الحقائق وتزييف الواقعات لصالح من يدفع الثمن وأعتقد أن هذه الأدواء والمفاسد ما زالت تنخر فى عظام مؤسساتنا القضائية حتى الآن، الأمر الذى ينعكس بدوره على وجود العدالة من عدمه وإضاعة الحق بين المواطنين. للحديث بقية.