ما حدث فى ساعة متأخرة من مساء الأحد الماضى، فى قلب العاصمة المصرية القاهرة، كان مؤلمًا وبشعًا؛ فعندما تكون ضربات الإرهاب الدامية فى سويداء قلب الإنسانية المعذبة، يصبح الألم مضاعفًا، وتصبح الأنّات عالية بشكلٍ يحولها إلى صرخات تشق ظلام الليل الأسود، ليسرى الصوت من أهل الأرض إلى رب السموات الذى يستمع لأنّات المعذبين وصرخاتهم، ويتعهد بالوقوف إلى جانبهم ليخفف عنهم آلامهم، ويمسح بضع دموع انسابت من عيونهم، ويزيل بعض بريق دمعات تحجرت فى مآقيهم.
إن ما حدث من تفجير إرهابى خسيس أمام البوابة الرئيسية للمعهد القومى للأورام، لم يكن عملية انتحارية نفذها إرهابى مجنون فحسب، بل كانت انتحارًا أيضًا للإرهاب وأعوانه، لأن هذا الإرهاب يلفظ أنفاسه الأنفاس الأخيرة من إنسانيته التى طالما تغنى بها، بأنه لا يستهدف المدنيين، وهى مقولةٌ كاذبة جملةً وتفصيلًا؛ فليس المسيحيون فى الكنائس والمسلمون فى المساجد الذين نالتهم يد الغدر والإرهاب عنا ببعيد، ومهما صدرت بيانات صدرت من جماعة إرهابية موصومة، فإننا لن نصدق إلا ما رأيناه رأى العين، واستهدف الأبرياء فى الشارع، وأفزع المرضى فى معهد الأورام.
لقد دمعت عيناى وأنا أرى المرضى الفقراء الذين جاءوا من كل حدب وصوب من أصقاع مصر المختلفة من قلب الصعيد حتى ثغور مصر الشمالية، وهم فزعون يتكئون بعضهم على بعض، والأم التى تحمل وليدها المريض، والمرضى الذين يُرَكّبون أجهزة الوريد (الكانولا) فى أياديهم، وعربات الإسعاف التى تسعى لنقل كل هؤلاء المرضى وسط الدمار والأشلاء وجثث الضحايا وعشرات المصابين.
لقد دمعت عيناى عندما علمت أن ثمة «زفة» لعروس وعريسها تحيطها سيارات الأهل والأصدقاء ابتهاجًا وفرحًا كانت تمر بالصدفة فى توقيت الانفجار نفسه، فأحال الإرهاب الأسود الفرح إلى مأتم كبير ليقضى ١٥ من أسرة العروسين نحبهم، هل وجدتم مشهدًا أكثر من ذلك بشاعة ومأساوية، هل وجدتم خسة ونذالة أكثر من ذلك، هل وجدتم مَن يتاجر بالدين ويعرض بضاعته من متفجرات وجماجم وجثث وأشلاء على قارعة الطريق، ويقول إنه يفعل ذلك باسم الدين، ولا يعلم أن الشيطان يستعبده لينفذ له ما يريد، حتى يفسد فى الأرض ويسفك الدماء، رغم أن ملايين المؤمنين يقدسون الله ويسبحون بحمده، ويفيضون حبًا وإنسانية لكل مَن يستحق المواساة والتعاطف وعلى رأسهم المرضى الفقراء الذين طحنهم المرض والفقر، ولم يبقَ إلا الإرهاب ليقضى على البقية الباقية منهم.
ورغم قتامة الصورة وسوداويتها، فإن الأبيض يُولد من رَحِم السواد، والضوء يُشع ويسطع من رَحِم الظلام، والخير تظهر أياديه قوية فتية لكى ينتصر على الشر، وهى سنة الله الخالق فى هذا الكون الذى يحاول تدميره هؤلاء الأفّاكون الآثمون، الذين لا يعرفون معنى البناء بقدر ما يعرفون كيفية الهدم والتخريب، لا يعرفون قيمة الحياة بقدر ما يعرفون القتل وسفك الدماء بغير حقها.
لقد أرسل الله لهؤلاء المرضى كاستجابة فورية لدعواتهم التى شقت طريقها إلى عنان السماء عشرات الملايين من الجنيهات لإعادة تأهيل مبنى معهد الأورام وتوسعته، بل والانتهاء من مبنى المعهد فى مدينة السادس من أكتوبر، ولعل أول ما يمكن الإشادة به فى هذه السبيل، هو ما قام به سمو الشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبو ظبى، الذى جاءت استجابته سريعةً كالبرق بالتبرع بـ ٥٠ مليون جنيه لصالح المعهد، وتكفل سمو الشيخ سلطان القاسمى حاكم إمارة الشارقة ببناء المبنى الشرقى للمعهد، هذا علاوة على تبرعات المصريين من رجال أعمال ولاعبين ورؤساء تحرير وأُناس بسطاء لا يملكون إلا القليل، والتى راكمت مبالغ فاقت كل التوقعات، وهو ما مَكّن مصر وإحدى شركات المقاولات من البدء بعد ساعات من العملية الإرهابية الغاشمة فى عملية ترميم المعهد وإعادة تأهيله، بل واستقبال مرضى العيادات الخارجية فى اليوم التالى للعملية الإرهابية مباشرةً.
إن هذا الحادث بقدر سوءاته أثبت أننا لسنا وحدنا، لأنه أثبت أن لنا إخوة فى الدم والعِرق والنَسَب، إخوة أشقاء من دولة الإمارات التى طالما وقفت إلى جوار مصر فى السراء والضراء، وفى وقت الشِدة والرخاء، وقد كان الدعم الإماراتى الأخير لمصر معنويًا أكثر منه ماديًا، لأن المصريين شعروا بالأمان وبالتكاتف بين الإخوة والأشقاء، وبأن الله شد عضد المصريين بإخوانهم الإماراتيين، لتصبح مصر والإمارات يدًا واحدة فى مكافحة الإرهاب الآثم.
رحم الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ونفع بأبنائه وإخوانه ممن يحكمون الإمارات حاليًا حكمًا رشيدًا، استطاعوا من خلاله أن يوفروا الحياة الكريمة لمواطنيهم، ويأخذوا بكل أسباب التقدم والحضارة، مستفيدين فى ذلك من الاستغلال الرشيد لموارد الدولة.
رحم الله الشيخ زايد، الذى لم يبخل بأى دعم لمصر فى حربها فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣، وكان أول مَن نادى بقطع إمدادات النفط عن الدول الداعمة لإسرائيل، قائلًا: «إن البترول العربى ليس أغلى من الدم العربي»، وكان الشيخ زايد أول زعماء العرب الذين وجهوا بضرورة الوقوف إلى جانب مصر فى معركتها المصيرية ضد إسرائيل، مؤكدًا أن «المعركة هى معركة الوجود العربى كله ومعركة أجيال كثيرة قادمة علينا أن نورثها العزة والكرامة».
رحم الله الشيخ زايد الذى سخر من دويلة قطر حين تطاولت على مصر فى حياته، وأبت مصر أن ترد عليها، فما كان منه إلا أن رد عليها ساخرًا من تطاولها بعبارة ستظل تؤرق حكام قطر حتى تلاحقهم فى قبورهم.
إن تكاتف الإخوة الأشقاء من دولة الإمارات ليس جديدًا ولا مستغربًا، ولكنه الحب والود والأواصر القوية التى ستستمر على مر الزمان. إن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه وأبناءه وإخوانهم من حكام الإمارات سيظلون فى قلب مصر وضميرها.
إن مصر والإمارات سيظلان يدًا واحدة فى مواجهة الإرهاب أيًا كان نوعه ومصدره، ولن يغمض لهما جفن حتى القضاء على آخر معقل من معاقل الإرهاب على خريطة الشرق الأوسط بأكملها.