ونحن نخطو خطوات واثقة نحو بناء وطن جديد، تواجهنا موجات عاتية من المقاومة، في مقدمتها دوائر من أزيحوا من المشهد بإرادة شعبية، وهالهم أن يتبدد سعيهم المثابر والدؤوب للقبض على مقاليد السلطة ومفاصل الدولة، في لحظة ظنوا فيها أنهم دنوا من الثمرة ليقطفوها، فكان أن اتجهوا إلى الإرهاب والترويع ليكملوا معطيات سقوطهم وخروجهم البائن، بعد أن تخاصموا مع الحس المصري.
في هذه الأجواء يبادر المركز العربي للبحوث والدراسات إلى عقد مؤتمر بحثي بالقاهرة يتناول واحدة من القضايا الساخنة، والتي تمثل مفصلاً ملتهباً ومزمناً من مفاصل المشهد المصري والعربي، لا يمكن الترتيب للمستقبل دون أن نتعرض له بحثاً في تكوينه ودوره وموقعه، كان عنوان المؤتمر "مستقبل حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي" - والذى امتد لثلاثة أيام من 28 حتى 30 يناير 2014 - وكانت مناقشات الحضور لا تقل أهمية عن الأوراق الثرية التي قُدِّمت على منصته.
كان المؤتمر تجمعاً عربياً متميزاً من تونس والمغرب إلى السودان وفلسطين والكويت - وفي القلب منه مصر بالضرورة - وكان للتيارات الإسلامية مكان على المنصة وحول مائدة الحوار والمداخلات، وطافت بنا الأوراق لنتعرف على الخريطة المعرفية لحركات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي، والمنطلقات الفكرية والنظرية لحركات الإسلام السياسي "الجذور" بحسب رؤية الدكتور محمد حافظ دياب، ثم قراءة عن قرب لمشاركة التيارات السلفية في الفعل السياسي، قدمها الدكتور كمال حبيب.
ثم أفسح المجال لنتعرف عن قرب على رؤى هذه الحركات في بناء الدولة والمجتمع، وفيها تناول الدكتور عبد الله المغازي رؤيتها في الدستور، بينما حلل الدكتور قدري حفني موقفها من قضية الهوية "للذات وللآخرين"، ليأتي اليوم الثاني فيقترب من تجارب حركات الإسلام السياسي في السلطة - الإخوان في مصر وتوجه الانفراد بالحكم - وتناولها تأصيلاً وتحليلاً الكاتب المصري الأستاذ نبيل عبد الفتاح، فالتجربة الإسلامية السودانية، التفكيك وإعادة هيكلة المجتمع وتنميطه برؤية بانورامية وقدمها الكاتب والباحث السوداني الدكتور حيدر إبراهيم، والتجربة الإسلامية العراقية وحالة اللا استقرار في الدولة، وجمع أطرافها السياسي العراقي الدكتور واثق الهاشمي، ثم تجربة انتقال حزب النهضة من المعارضة إلى الحكم في تونس وتجريف التجربة البورقيبية ودفع المجتمع إلى الخروج من أنساق الحياة المدنية، وتعرض لها المحلل السياسي التونسي الدكتور محرز الدريسي.
ولم يكتف المؤتمر بالعرض المعلوماتي واستعراض الواقع للتيارات التي وصلت إلى الحكم، بل خصص جلسة لتقييم أدائها في مصر، وتصدّى لها الباحث الدكتور يسري العزباوي، وفي المغرب عبر ورقة الدكتور إدريس الهاني، وأخيراً في الكويت عبر استعراض عن قرب للدكتور شملان العيسى.
ويأتي اليوم الثالث ليحصد نتائج المؤتمر ويطرح تصورات لآفاق المستقبل، ويقترب من ملامح الصراع السياسي بين التيارات الليبرالية والإسلام السياسي كما يراها الباحث الدكتور سامح فوزي، ثم يتداول الدكتور أحمد بدوي "السيناريوهات المحتملة لمستقبل جماعة الإخوان"، ويخرج الدكتور أحمد بان إلى دائرة أوسع فيتعرض لمستقبل التنظيم الدولي للإخوان في ظل تحولات الخريطة الدولية.
ثم يأتلف المؤتمر حول مائدة مستديرة ليمارس عصفاً فكرياً حول استراتيجيات التعامل المستقبلي مع حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي، في جلسة أدارها الأستاذ السيد ياسين، وتحدث فيها بخبرات العمل على الأرض وخلفيات العمل الأكاديمي الدكتور عبد الرحيم علي، والدكتور علىِّ الدين هلال، والدكتور علي خشان والدكتورة آمال قرامي.
وعلى الرغم من دسامة الأيام الثلاثة - أوراقاً ومناقشات ومداخلات - فإن حصيلة الأسئلة التي خرج بها المؤتمر، والتي تبحث عن إجابات، نافست الأطروحات والجهد البحثي الذي حملته أوراق المؤتمر، وهو أمر يحسب للمؤتمر فنحن في حاجة إلى تفعيل الفعل الفكري وحفز العقل على التدبر، فالأسئلة هي وقود فعل التغيير، وعندما تتزاحم فهي تؤكد أننا أمام تحدٍّ حياتي يصبح الصمت عنه جريمة في حق من يصمت، فضلاً عن حق الوطن التاريخ والأرض والبشر والمستقبل.
ونأمل أن نستعرض معاً أوراق المؤتمر ومداولاته وإضافاته الثرية في مقبل المقالات.