أسوان درة النيل.. قولوا عنها بالسين أو بالصاد فإنها تؤدى للمدلول، فهناك استخدام لحرف (الصاد) سواء فى الدواوين أو حتى المدارس فالاسم مأخوذ من (الصوان) وهو الحجر الصلد، وهناك من فسر كتب الأدب واعتقدوا أن كلمة (أسوان) مأخوذة من الأسى الذى تعرضوا لها بقضايا مليئة بالتحديات وتتحمل صدور أبنائها مايتعرضون له.. واسم أسوان عرف قبل الفتح العربى وذكرته التوراة مرتين وقيل إن معنى الكلمة القديم (السوق) لأنها منذ فجر التاريخ منطقة تجارية تربط التجارة بالسودان والبحر الأحمر.
النوبة هى (الدرة الأسوانية) فهى أصعد الصعيد، وهذه الأيام بدأت النوبة تتحرر من أسر (الجليد) وبدأت تستعيد لياقتها وتبدأ نقطة البدء فى حياتها من جديد لتسهم مرة أخرى فى إعادة منظومة التمدين وتنصهر فيها لتظهر صورتها الجمالية من جديد، تراث يتفاعل وعمارة ولغة معمارية تحاور الأجيال لتصيغ كلها مجد ومجيد.
النوبة تطلق أشعارها وفنونها وبكل السخاء تؤكد معانيها الراسخة الوجدانية لتعلن أن التراث الثقافى هو روح الهوية وهو همزة الوصل بين الماضى وعراقته وطموحاته فهى تمثل تحدى الوجود والإحساس بالذات وضبط وقياس القيمة الجوهرية حتى تظل شاهدًا بصدق الثوابت التراثية دون عوائق.
هذه فلسفة القيادة السياسية حينما تصدت لقضية النوبة فلم تعالجها برؤية المأساة الإنسانية وتراكمات ماتعرضت له أراضى أبناء النوبة نتيجة المرارة التى رسخت فى نفوسهم والتى امتزجت بروح الوطنية والتضحية والتى عبر عنها الشاعر والنائب محمد عبدالرحيم إدريس حين سطر ملحمته الخالدة... أنا النوبى حيث قال فيها:
وأنا.. أنا النوبى ملئ جوانحي.
حب الحمى رجائه المتجدد.
حملت ثقل السد فوق كواهلي.
حملته فرحًا ولم أتردد.
ضحيت بالذكرى العزيزة بالثرى ألغا.
لى بنخلى بالشطوط بمعبدي.
بتراث أجدادى بحلم بطفولتي.
بقبور أبائى بنسمة مولدي.
بكيان روحى بالضفاف عزيزة.
ضحيت كم ضحيت دون تردد.
للثورة الكبرى دمى ومرابعي.
قربان خير للبلاد وسؤدد.
ويقول المرحوم الأديب محمد الشوربجي...
غرقت فى صمت.. لم تصرخ ولم تولول.
ترقد فى هدوء تحت الماء.. صيفًا وشتاءً.
أرضي.. بلدي.. نوبتي.
فيها عمري.. قبر أمي.. وأجدادي.
فيها رنة قهقاقي.. لوعة آهاتي.
فيها كل أحلامي.. طيلة أيامي.
نوبتي.. اهدئى تحت المياه.
بأرضي.. بيتي.. نخيلي.. ومرتع صباي.
وهبت الملايين الحياة.. أنت أنت الحياة.
لن أتحدث عن الديوان بكلام رومانسى لكنه صفحة مضيئة تسجل فيها يومي.. فهى كلمة رومانية معناها مقر الحكم حيث كان تعتبر مدينة بما لها من قصور وسرايات وكان مقر الرومان أثناء حكمهم وتحول حصنها (حصن ديفي) إلى قصر الحكم أيام العباسيين والأمويين والفاطميين والمماليك والكومندان حسن كاشف الأول الذى تحول حصنه إلى القصر الديوانى وانتشر بناء المنزل النوبى وسميت أفخر حجره (بالديواني) وكانت معركة توشكى الشهيرة حيث اتخذت الإدارة المصرية (كروسكو) مقرًا لإدارة الحكم وعينوا نظار أو عمد لبعض البلاد هى الديوان ومنطقة حلفا وبلدة أمبركاب وقرية الدر وتنقاله وأبو حنضل.
وقرار رئيس الدولة بفتح ملفات تعويضات المتضررين من السد العالى الذى كان بمثابة (عودة الروح) وبدأت تدب فى بلاد النوبة وأبنائها حالة يقول عنها الخبراء إنها روح يقظة ونشطت فيها حالة من الفكر السريع.
قريتى وعنوانى الجديد..
بلدى الديوان.. تجسد فيك ومكوناتك كل القيم الجمالية ولايقتصر الأمر على القيم الاستجمامية ولكن الإحساس يتجلى بخاصية الأرض وعبقريتها وسحرها وعمق جاذبيتها وتأثير هذا الكيان المجتمعى على السلوك والتفاعلات وعائدها المعنوى الذى يصعب قياسه بسهوله لكنه واقع ملموس، هذا كله يعكس القيم للموقع.. قيم جوهرية فى اسم الديوان.. والقيم الموروثة وتراثها وميراثها هدية وتميزًا وتبادل عناصر مدى إحساس ابن البلدة بالقيم سواء كانت اختيارية أو متواجدة وأهم معالمها أنها الروح.. روح ابن النوبة الذى أصبح منذ فجر التاريخ جزءًا من التراث الثقافى الإنسانى ومدى قدرته على الحفاظ على البيئة بكل مفرداتها.. فالموضوع ليس مجرد مقوماتها كمنطقة جذب اجتماعى وسياسى وزراعى وجماليات راقية هذا بالحس المادي.. لكن فى الديوان كل شىء يقاس فى حساب الزمن بالبناء المثمر للشخصية.
لقد كانت لحظة غرق القوى لكى يقام فوقها السد العالى هذا الصرح المجيد حيث ابتلعتها مياه النهر الخالد التى بنيت من طميه أجيال وأجيال وارتوى النخيل من مياهه وانتعشت الذكريات تحت سمائه.. كل هذا انتهى لكن بقى لنا ماهو أعظم وهو الإنسان المصرى النوبي.. واجه الصدمة لكن أعتبر أن الأمل سيعود من جديد مهما اختلفت العهود.. وطالما أن هذا هدف قومى فيظل هدفًا إكرامًا للغايات.. إكرامًا لنهر النيل... ولتاريخ مصر القديم.
وأثبت أبناء النوبة أن المجد يولد من رحم الأحزان والمأساة إكرامًا للوديان وغرس الأشجار والنخيل.. وجاء القرار السيادى للرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الدولة يؤكد للأجيال أن الدولة حاليًا فى أعلى درجات المسئولية فيها تلتمس من أبناء النوبة أن يتفاعلوا مع حدث إعادة البناء.. إعادة الصحوة.. إعلان وثيقة الغفران تجاه هذه البقعة الحضارية المشعة لأرض مصر.. النوبة.. أرض الذهب.. ومن الأعماق نقول.. حياك الله يا قائد البلاد على قرارك.
وهناك رواد نذروا أرواحهم للحفاظ على الهوية النوبية فى مقدمتهم اللواء صالح مرسى الذى أصبح مديرًا لأمن أسوان ويجدر أن نذكر فى حقه واقعة حيث فوجئ السيد زكريا محى الدين وزير الداخلية بطلب مقابلة من ضابط صغير فى مديرية أمن الإسكندرية ويعمل نائبًا لمأمور قسم باب شرق.. واستفسر عن الضابط قبل المقابلة فوجئ بأن التقارير كلها تضعه فى أرفع مكانة من الجهد والسهر والكفاءة والانضباط وهذا كان دافعًا للوزير أن يعرف سبب طلب هذه المقابلة وفوجئ الوزير أن الضابط يرجو من الوزير أن ينقل إلى أسوان وسأله عما إذا كانت هناك متاعب تواجهه فأنت فى مكان مريح.. فكان رد الضابط بكل ثقة إنه يريد أن يمضى بما بقى من حياته لكى يتعايش مع أبناء النوبة فى معاناتهم مع بداية تنفيذ نقل القرى وليس من المعقول أن يعيش فى العاصمة الثانية ويرى أهله يجمعون أشقاءهم وأشلاء مقابرهم ويتركهم وحدهم.. فلم يكن إلا صدور قرار من الوزير بالاستجابة لطلب الضابط الشاب.