التدوين الإلكترونى هو «عالم» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من فضاء مُتسع رحب، براحهُ الكلمة الحُرة، التى يتاح فيها لصاحبها (مُرسلا ومُستقبلا) أن يطرح مايشاء، مُطلقا العنان لآرائه وأفكاره تجاربه وأحلامه، ويبدو العالم هنا أيضا فى كم الرواد والمُتابعين (المُتصفحين والمُعلقين) ونوع المواد التى تُدون، إذ تقارب حالة اهتمام وانشغال المُدون (نـة) بدءًا من سيرته، ويومياته بكل تفاصيلها إلى آراءه فى مواضيع وقضايا السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، الثقافة والأدب.. إلخ، وإن كشفت عن خصوصية صاحبها، ونحت أحيانا إلى الذاتية والأنا، لكن ذلك لا ينفى حالة انفتاحها على الآخرين، إذ بمجرد بثها على الصفحة التدوينية تُشكل علاقتها بالمتلقى الذى يحتفظ بحق الرد المُتاح بالمراسلة والتعليقات، من عدمه، وفى الجانب الصحفى والإعلامى تظهر طزاجة وحيوية وظيفة ودور المدونات، وفى الآونة الأخيرة تزايدت صفحات المُدونات العربية والعالمية، التى وفرت مناخًا يُنافس الصحيفة والمطبوعة الورقية، (وإن كانت سنيدة له فى النشر، فأغلب الصحف والدوريات الورقية لها مواقعها)، فهناك المقال اليومى أو الأسبوعى الذى يُعنى بموضوع أو قضية يجرى تداولها (ما يكتبه المُدون أو ما ينتقيه من مُدون افتراضى آخر) وهناك إصدارات رقمية فى شكل دراسة، أو بحث، أو قصص وروايات، ودواوين شعرية، وسير ذاتية…، وإن فاق الشكل الصحفى ما يصدر من نتاج ثقافى محليا وعربيا، مع الإشارة بالخصوص إلى أن تبنى فكرة إعادة تثبيت ونشر (الورقي) ليصبح نصا رقميا سيحظى حينها بالتداول والشيوع الذى يجتاز فيه الجغرافيا المحدودة للمُنجز وكذا سمة ونوع المطالعين المتصفحين.
(إيريك ريموند) يُعلن أن مُجتمع المُدونات المفتوح هديةٌ ثقافية، وأنه مجتمع تسوده ثقافة العطاء والمشاركة بدلا من نظام الأوامر والسلم الوظيفي، وتلك من ميزات المدونات إذ لا تكميم، ولا حذف، ولا رقابة، ولا قوانين معينة حين النشر، إلا ما يحمله صاحبها من احترام ومسئولية ذاتية تجاه ما يُدونه أو ينتقيه، وفى عالم المُدونات ما يشى بدور وتأثير على أكثر من صعيد، صناعة الرأى العام، والدفاع عن القيم والأفكار ومناقشة لقضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان: رجلا، وامرأة، وطفل، على تباين مستويات الطرح والتأثير.
واليوم مئات الآلاف من المدونات عربيا (وربما وصلت إلى الملايين عالميا) تُفرد مساحة مجانية بلا تكلُفة للكلمة والرأى على مواقع شبكة الإنترنت، ترفع شعـارا ضمنيا: صوتك، صورتك، كلامك أنت، فمن عنوان، اسم المدونة (فالباب من عنوانه) نتكشف دلالات أنها ليست لمجرد التعبير (الفضفضة) فللمدونة رسالة تُبلغها وهدف، والتدوين خطوة أولى للتفاعل مع الأحداث ولتعدد وجهات النظر، ولطرح المشاريع والأفكار الجادة، والهموم والمواقف التى قد يدفع المُدون بجرأته وصدقه ضريبتها حين النبش فى المحظور، وحين انتقاده بعض الأوضاع السائدة المسكوت عنها، وهناك مثابرة وتفان تجاه أن تكون المدونة حمالة أوجه تلاقى وتماثل: صفحتى هى صفحتك، والمشترك حرية الكلمة والدفاع عنها، أنا أُدون... أنا حُر.
وقد يرى البعض رأيه فيما انحزتُ له سابقا من دور للمدونات ولما يكتب على الحوائط (الفيس والتويتر، و..)، من أن عائقًا هو العلاقة بالتقنية، أوالإيمان بدورها أصلا، وكسر حاجز القبول والرهبة، والفهم المُسبق كونها عصية المعرفة والاكتشاف (أجهزة الكومبيوتر والنقالات بتعدد أنواعها وتصميماتها التى فى تطور كل يوم)، وأنها تحتاج زمنا للتعاطى معها أليا وفكريا، لكن ذلك لن ينفى أن التقنية أضحت من الأدوات الأساسية للمعرفة (بشموليتها)، وللتواصل الإنسانى فى هذا العصر مع ترديدنا مقولة العالم أضحى قرية صغيرة وقريبة بضغط زر فقط! ومهما جانبنا وتطرفنا فى رأينا تجاه الدفاع عن علاقتنا بالقلم والورقة، ومن ثم الصحيفة والكتاب، خاصة أن التدوين فى الآونة الأخيرة أصبح يعنى بث الرأي، والطزاجة، واللحظة، والآن، لا سبيل لنفى ذلك، وسأعنى بذلك شريحة الكُتاب والأدباء والصحفيين والإعلاميين عمومًا، الذين تمثل لهم المدونات مساحة مفتوحة للممارسة الفاعلة، ما ينشدونه ويسجل غيابه (بل وإقصاءه ومنعه) على الصعيد العملى الوظيفى الروتيني، ولن يعنى ذلك استثناء أساتذة الجامعات، بل والمختصين والمخططين فى المراحل التعليمية، والوظيفية المختلفة (مهندسين، وأطباء وصيادلة، ومحامون..)، فالمُدونات حيز الجميع.
وتظل المدونة فى جانب كبير منها رسالة ذات خصوصية معرفية وإنسانية وحمالة قضايا وسنلحظ ذلك فى المدونات الخاصة كنموذج ومثال المجال الحقوقى وقضايا الطفولة والحراك النسوى وقضاياها المُتعددة (المُدونة: أنثى!)، عدا الجانب الجمالي، والتوثيقى الذى يشهد فورة مُلفتة فيما يعكس ذائقة ومخزونات بصر وسمع الأفراد والمجموعات التى لن يتاح لها ذلك فى فضاءات إعلامية أخرى قد يطويها الزمن يوما بفعل العصرنة.