ذكرنا فى المقال السابق، كيف أن وفاة والدة الطفل جمال عبدالناصر قد تركت فيه جرحا غائرا وحزنا بالغا، خاصة وقد أخفوا عنه الخبر لأكثر من أسبوعين؛ حيث كان يؤدى امتحانات المرحلة الابتدائية بالقاهرة عند عمه خليل، بينما كانت تعيش فى الإسكندرية مع أبيه وإخوته الصغار عز العرب والليثى وشوقى، فلما عاد وعرف الأمر، أصابه الحزن الذى كتب عنه فيما بعد يقول: «لقد كان فقدانى لأمى فى حد ذاته أمراً محزناً للغاية، فقد كان فقدها بهذه الطريقة وعدم توديعى إياها صدمة تركت فى شعوراً لا يمحوه الزمن»، ويبدو أن أحزان جمال قد ازدادت وتعمقت عندما تزوج والده قبل مرور عام على وفاة السيدة فهيمة والدة جمال، وقد شارك جمال كما ذكرنا فى مظاهرات سنة ٣٠ بميدان المنشية بالإسكندرية، عندما كان طالباً بمدرسة رأس التين الثانوية، اعتراضاً على قرار الملك فؤاد ورئيس الوزراء إسماعيل صدقى بإلغاء دستور ٢٣، واستبداله بدستور ٣٠، وقد ألقى عليه القبض أثناء المظاهرات، واحتجز لمدة ليلة واحدة، وقام والده بإخراجه بضمان وظيفته، وفى عام ١٩٣٣ انتقل عبدالناصر حسين إلى مكتب بريد القاهرة، فانتقل معه جمال والتحق بمدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر، وكان جمال محباً للقراءة ويقضى معظم وقته فى دار الكتب التى كانت قريبة من بيته، وفيها قرأ أشعار شوقى وحفظها، وقرأ لتوفيق الحكيم، وكان مولعاً ومعجباً بما يكتبه الحكيم، كما قرأ أيضا لفولتير وكتب عنه مقالاً فى مجلة المدرسة بعنوان «رجل الحرية»، فتم التحقيق معه بسبب هذا المقال، واستدعى والده إلى المدرسة وطالبته الإدارة بالتنبيه على جمال بعدم الاطلاع على كتب من خارج المنهج التعليمى، وفى عام ١٩٣٥ قاد جمال مظاهرة ضد الاحتلال الإنجليزى بعد تصريح «صموئيل هور» وزير الخارجية البريطانى، بأن بلاده ترفض عودة الحياة الدستورية للمصريين لأنهم لا يستحقونها، وأثناء المظاهرة التى خرجت إلى الشارع والتحمت بها الجموع أصيب جمال بجرح فى جبينه من أثر شظية لرصاص أطلقه الجنود الإنجليز بغية فض المظاهرة، فحمله زملاؤه إلى مدخل عمارة قريبة من الحادث، وبالمصادفة كان بهذه العمارة مقر جريدة «الجهاد»، التى كتبت فى اليوم التالى عن الطالب جمال، وعن المظاهرة فصار اسمه يتردد على الألسنة، مما عرضه للفصل من المدرسة، ولولا أن والده قدم التماساً ما عاد جمال ليكمل تعليمه، وفى عام ١٩٣٦ خرج جمال مرة أخرى فى مظاهرات الاعتراض على اتفاقية ٣٦، التى وقعها النحاس مع الإنجليز، وكاد يفصل للمرة الثانية لولا أن مدرساً وطنياً اعترض على فصله وهو قاب قوسين أو أدنى من امتحان القسم الأدبى بالبكالوريا، وما أن اجتازه جمال حتى علم أن الكلية الحربية قد فتحت أبوابها لقبول أبناء المصريين من البسطاء، نظراً لعزوف أبناء الطبقة الأرستقراطية والأغنياء عن الالتحاق بها بعد ما لاح شبح الحرب فى الأفق باحتلال إيطاليا للحبشة، وفرض سيطرتها الكاملة عليها، إلى جانب احتلالها لليبيا منذ ١٩١١، مما يعنى حصار القوات البريطانية فى مصر من الجنوب والغرب، ولذا فقد طلبت سلطات الاحتلال الإنجليزى من الحكومة المصرية زيادة عدد المقبولين بالكلية الحربية لتجهيز الجيش المصرى للاشتراك فى الحرب القادمة الوشيكة الوقوع، ولكن الأثرياء خافوا على أبنائهم فأصبح بإمكان البسطاء أن يلتحقوا بالكلية الحربية، وكان جمال قد كون وجهة نظر مختلفة آنذاك فى عرابى، واعتبره ثائراً عظيماً، وقرأ عن نابليون وبسمارك، وأصبح من أحلامه أن يكون قائداً عسكرياً يواصل كفاحه الوطنى من خلال الجيش الذى يجب أن يكون للمصريين، لكن حلمه هذا سرعان ما تحطم على صخرة الواقع؛ حيث تم رفض دخوله الكلية رغم اجتيازه كل الاختبارات، وذلك لأنه كان دائم الاشتراك فى المظاهرات، وبات عليه أن يختار ما بين أن يكمل دراسته الجامعية، وما بين أن يعمل بشهادة البكالوريا، فآثر الأب أن يكمل ابنه دراسته، وأن يستبدل نقوداً من معاشه ليدفع مصروفات كلية الحقوق التى التحق بها جمال، والذى يتحتم عليه أن ينجح فى السنة الأولى بتفوق كبير كى يحظى بمنحة المتفوقين رحمة بأبيه الذى لا يكفى راتبه لسداد مصروفات الجامعة، وبعد فصل دراسى واحد فتحت الكلية الحربية أبوابها مرة أخرى، لأن العدد المتقدم لها كان بسيطاً للغاية، والإنجليز يحتاجون لضباط من المصريين، فعاد جمال وتقدم إلى الكلية الحربية من جديد، وذهب لمقابلة إبراهيم خيرى باشا وكيل وزير الحربية، والذى اشتهر بمواقفه مع الحركة الوطنية، فساعده الرجل فى إتمام قبوله وتجاوز اللجنة عن التقرير الخاص بالنشاط السياسى لجمال، وهكذا تم قبول جمال عبدالناصر ورفاقه ضمن دفعة استثنائية، وأثناء الدراسة تعرف جمال على معظم أفراد جماعة الضباط الأحرار، وكانوا جميعاً يشعرون بالخزى لوجود المحتل الإنجليزى على أرض مصر، ويرفضون حال البلاد والعباد؛ حيث ينعم بخيراتها ما لا يزيد على نصف فى المائة وغالبيتهم من أصول تركية، بينما هناك ٩٩.٥٪ يعانون سوء المعيشة، ويتعرض بعضهم للضرب بالسوط من جناب أفندينا الباشا، وكان معظم أبناء الوطن يمشون حفاة لأنهم لا يملكون حق الحذاء، وكانت معظم القرى وبعض المدن مفتقدة سبل المعيشة الآدمية، فلا مياه نظيفة بها ولا كهرباء، وقد أدى ذلك إلى انتشار وباء الكوليرا فى مصر أكثر من مرة، وحصد أرواح الآلاف، وانتشرت البلهارسيا والسل بين جموع المصريين، أما الملك الشاب فكان يرتع مع رفاقه فى النوادى الليلة خلف الراقصات والعاهرات، وكانت الحكومة تمنح بيوت الدعارة ترخيصا، وتعتمد على الفتوات فى السيطرة على الأماكن الشعبية.. وللحديث بقية.
آراء حرة
واحة الخميس .. جمال عبدالناصر "2"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق