لغتنا العربية زاخرة بمفردات كثيرة، وكلمة «النقد» إحدى هذه المفردات اللغوية، ولها معان عديدة تختلف حسب السياق والمقصد. فى ( لسان العرب، ابن منظور، الجزء 14، ص 254) نقد الدرهم ونقد الدراهم أي: أخرج منها الزيف، وناقدت فلانًا، إذا ناقشته بالأمر، هكذا تأتى بمعنى المناقشة وأيضا بمعنى كشف الزيف أى استيضاح الجيد من الردىء وفق قواعد وقوانين يحكم الشخص المنوط به الحكم على الأمور شريطة أن يكون موضوعيًا غير منحاز وهو الناقد الذى يقرأ أو يشاهد أو يستمع إلى العمل حسب طبيعته ويبرز فيه مواطن الجمال والضعف وهو ما يعرف بالتفسير ثم يوضح أسباب ذلك وتلك من الأمور فيما يعرف بالتحليل ثم يصل إلى تقييم نهائى بنجاح أو فشل أو طرق تعديل بعض الأمور حتى تكون أفضل. والنقد الفنى هو تذوق العمل الفنى واستشعار جمالياته فى أعلى درجاتها من خلال دراسة الناقد الفنى واختياره لنوع النقد الذى يتلاءم مع العمل كل ذلك فى سبيل أن تكون التجربة الجمالية أفضل وأكثر إمتاعًا حين استقباله من خلال كتابته عنها أو محاضرته التفاعلية فهو يفتح لنا نحن الجمهور الطريق إلى رؤية واكتشاف ما لم نكن نراه أو ما لم نكن قد اكتشفناه من قبل ويجعلنا أكثر إحاطة بما يحمله العمل الفنى من رسالة ومعان وتعبيرات مستترة ورموز تربط العمل الفنى بالعالم الذى نعيش فيه ونتشارك تجاربه وهو ما يربط العمل الفنى بتجربتنا الخاصة فى الحياة. تتعدد أنواع النقد وتتنوع فهناك النقد القصدي: الذى يبحث ويركز عما يقصده الفنان من وراء إبداعه سواء كان مسرحًا أوشعرًا أو رواية أو قصة قصيرة أو لوحة أو عملًا موسيقيًا أو غيره وسؤاله الرئيسى هو ما الذى حاول الفنان أن يفعله وكيف حقق مقصده؟ وهناك النقد الانطباعى وفيه يتخلص الناقد من جميع القواعد ويتعامل بما يشعر به تجاه العمل ومقدار تأثير العمل فى وجدانه وسؤاله الرئيسى ما الذى يعنيه هذا العمل، وما تأثيره فى روحى ووجدانى وهل أشعر بالمتعة الجمالية أم لا؟ وهناك النقد الباطن: الذى يرى الشىء كما هو بالفعل، فيركز على الطبيعة الباطنة للعمل دون اعتبار لأى شىء خارجه. أى أننا يجب أن ننقد كل عمل فنى على حدة دون مقارنة بآخر لأن الحكم الجمالى هنا نسبى لأنه يحترم فردانية العمل الفنى ولا يتبع قواعد صارمه تطبق على الجميع. وهناك النقد السياقى الذى يبحث فى السياق التاريخى والاجتماعى والنفسى للعمل الفنى وهو من أقدم أنواع النقد ونستطيع بسهولة فنرى العمل الفنى نتاجًا اجتماعيًا تظهر من خلاله معتقدات الفنان وملامح عصره بل وربما حياته ذاتها. وهناك النقد بواسطة القواعد وهو النقد الذى لا يكتفى بمشاعر الناقد الخاصة بل يتسع إلى خصائص العمل ذاته، والتى يتناولها بمعايير الجودة الفنية ويقيسها بها والتى بدونها لا نستطيع فهم مبررات حكمه كناقد على العمل الفني. إن المهمة الرئيسية للناقد هى نشر المعرفة كما يقول الناقد العالمى ماثيو آرنولد. من هنا نجد أن العمل الفنى أيا كان نوعه أو آلية تقديمه إلينا نحن الجمهور لابد له من المرور بمرحلة النقد التى تضيؤها رؤية ناقد متمكن يمتلك أدواته الخاصة والنظريات التى يعمل من خلالها على إظهار العمل الفنى بشكل لم نره من قبل فهو يدخل إلى عمق لم نبلغه من خلال قراءتنا كجمهور ربما تشغله الأحداث والزمان والمكان والشخصيات لكن الإشارات والرموز وإيحاءاتها ربما لا يلم بها. ولعلنا نتفق أن كل قراءة للعمل الواحد أو كل سماع لعمل موسيقى أو كل مشاهدة لعمل مسرحى أو سينمائى أو غيره تختلف مردودها حسب طبيعة كل فرد من الجمهور مدى ثقافة هذا الفرد وحساسيته للفن وهو ما يردنا إلى وظيفة النقد وضرورة الناقد وأهميته بالنسبة لنا نحن الجمهو وأيضًا بالنسبة للعمل الفني. اعرف أن الكثيرين لا يميلون إلى قراءة الدراسات النقدية لأنواع الفن المختلفة ربما لأن بعضهم يلجأ لكتابة المصطلحات المتخصصة أو تتعالى لغته على مستوى القارىء غير المتخصص مما يجعله ينفر من القراءة بعد سطرين لكن الناقد الجيد هو من يقوم بدوره ككاشف للزوايا المظلمة فى العمل أو كمهندس يرتب جماليات العمل الفنى فنراه من زوايا مختلفة جديدة على عيننا وذهننا لم نتطرق إليها من قبل. النقد جسر العبور إلى عالم الفن الساحر ومهندس الجسر هو ناقد يجيد الإحساس بالجمال ويقدمه لنا فى لوحة ترتاح لها الروح.
آراء حرة
رحلة مع لغتنا العربية
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق