يتابع دكتور أحمد حماد أستاذ الإسرائيليات بجامعة عين شمس فى كتاب «الصهيونية وما بعدها.. قراءة فى الأنساق المضمرة» والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠١٨ بقولة: وتجلى أيضًا فقدان الرغبة فى تغيير الواقع السياسى فى وصف وضع الطبقة المثقفة الروسية بمفاهيم علم النفس المعاصرة كمرض التفسخ المستعصى، واستمرار تدهور الجهاز العصبى العاطفى، الذى أدى إلى الافتقار إلى الحيوية والشذوذ غير القابل للشفاء.
كان هذا الجو التشاؤمى، جو التفسخ، هو الذى شكل أيضًا العالم الروحى ووجهة نظر اليهودي. وهو ينعكس جيدًا فى المقالات التى نشرت فى الصحف والأعمال الأدبية العبرية آنذاك فى أشعار بياليك ويعقوب شتاينبرج. حيث يوصف الوضع اليهودى فى الأدب العبرى فى تلك الفترة كمرض لا شفاء منه، ويتجلى فى ضعف الأعصاب الجيني، الذى اتسم به الإنسان المتفسخ.
لذا يمكن القول إن الصهيونية كأيديولوجية وكإيمان تفاؤلى ولدت من داخل هذا اليأس الوجودى، وظل هذا اليأس جزءًا منها فترة طويلة بعد ظهورها. فقد استوعب الفكر التاريخى اليهودى فى نهاية القرن استعارة «المرض» وطبقها على وضع اليهود فيما يسمى المنفى: فى نهاية القرن نشأت الأسطورة العلمية لليهودى (المحتضر)، المريض بمرض مزمن لا شفاء منه، وتتضمن عيوبه الوراثية أيضًا عيوبًا نفسية، وشعورية وأخلاقية هكذا – على سبيل المثال ربط يوسف كلاوزنر، المؤرخ والناقد الأدبى البارز، الأفكار المعبر عنها فى أشعار يتسحاق لوب بيرتس (١٨٩٤) مع الوضع التاريخى الأوروبى واليهودي: «بعض أفكار وخواطر تثيرها هذه الأبيات فى قلب أى شخص يشعر بالوضع المادى والروحى الفظيع لأوروبا كلها فى نهاية القرن، خصوصًا فى قلب الرجل اليهودى الذى يكثر (يأس العفن) أو (عفن اليأس) من تدميره وابتلاعه».
وبهذا لا يصعب فهم كيف أنه فى فترة الاهتمام بالصوفية والأخروية فى روسيا نشأت أيضًا بين الروس اليهود المثقفين الذين لم يتنكروا ليهوديتهم، إعادة تقييم لتقاليد الصوفية والأخروية فى اليهودية، والرغبة فى إبراز ثراء وتواصل هذه التقاليد، والاستعداد لاعتبارها جزءًا مهمًا من هويتهم الروحية. وبالتالى يسهل فهم الربط بين الأفكار الأخروية فى المسيحية الروسية والأفكار الأخروية فى الفكر الدينى اليهودى للإيهام بأن الفكر الصهيونى مرتبط برباط لا ينفصم بالأفكار الدينية اليهودية ويستمد منها الإلهام لبلورة المفاهيم الصهيونية.
وهذا غير صحيح بالمرة لأن الفكرة الصهيونية – كما اتضح لنا الآن – هى نتاج فكر أوروبى خالص، استغلت الدين اليهودى لإذكاء أفكارها الأوروبية. وبالتالى لا يمكن الوقوف على ماهية الصهيونية إلا من خلال الفكر والأدب الروسى باعتبار أنها جزء من الثقافة الروسية / الأوروبية وغير مستقلة بأى حال بتفردية يهودية، كما شاع فى الدراسات الصهيونية.
وهكذا عملت الصهيونية على خصخصة الفكر والفلسفة الأوروبية وحولتها إلى حالة خاصة باليهودية وقدمتها على أنها نتاج أفكار يهودية خالصة، لذا يمكن اعتبار أن الصهيونية، فى نسقها المضمر، لا تعدو أكثر من استنساخ لأفكار أوروبية كانت معاصرة لظهورها، وبالتالى فهى ليست فكرًا يهوديًا خالصًا، بل هى جزء لا يتجزأ من الأنساق الفكرية الأوروبية. وهكذا أيضًا نرى أن الصهيونية لا يمكن أن تدرس فى سياقها اليهودى فقط، لأننا بذلك لا نرى إلا جانبًا واحدًا فقط من الصورة؛ أو كما أراد رواد الصهيونية، فرض الرؤية الصهيونية باعتبارها رؤية مهيمنة جعلت التاريخ الصهيونى محورًا مستقلًا لم يتأثر بأى اتجاهات أخرى؛ بحيث يظهر فى النهاية وكأنه المحور الذى تدور حوله باقى الأيديولوجيات (اليهودية / الصهيونية وغير اليهودية).
تكمن الفرضية الأساسية فى الحل الصهيونى فى التحول الذى أحدثه هرتسل فى فهم ظاهرة معاداة السامية. فقبل سفره إلى باريس، تمسك هرتسل بتفسير الليبرالية التى شاعت بين البرجوازية اليهودية فى عصره، والتى اعتبرت أن معاداة السامية كما ظهرت فى نهاية القرن التاسع عشر هى بقايا كراهية مسيحية العصور الوسطى لليهود، وأنها مثل باقى مظاهر النظام التقليدى سوف تنقضى كلما تقدم اتجاه التحديث فى المجتمع الأوروبى لقد افترضت التفسيرات الليبرالية، أن هناك علاقة عكسية بين معاداة السامية والحداثة وأن تقدم الأولى سيؤدى إلى تراجع الثانية؛ والنتيجة هى أنه مثلًا فى فرنسا الجمهورية، مهد الثورة والانصهار، كان مستوى معاداة السامية منخفضًا جدًا عنه فى القيصرية النمساوية – المجرية، التى كان النظام التقليدى فيها لا يزال فى مراحل الانهيار.
ولكن، كما يظهر من كتابات هرتسل، أن لقاءه مع معاداة السامية فى فرنسا دفعة إلى التشكك فى صحة التفسيرات الليبرالية، التى اهتزت فعلًا فى نظره كلما أمعن النظر فى الواقع السياسى الفرنسى فقد اكتشف أنه على عكس الفرضية الليبرالية، فى فرنسا تحديدًا، تعززت معاداة السامية وأصبحت قوة جماهيرية ملموسة لا تقل عنها فى النمسا، وأيضًا دفعه التشابه الذى وجده بين الأسس الاجتماعية والمظاهر السياسية لمعاداة السامية فى الدولتين، إلى إعادة دراسة فرضيات التفسيرات الليبرالية التى جاء بها من فيينا وصحيح، أنه كلما كشفت هذه الفرضية تناقضات التفسيرات الليبرالية، بدأت ترتسم فى نظره كأيديولوجية، تتنكر للواقع باسم رؤيتها المستقبلية.