رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد أسهبنا فى معظم كتاباتنا عن سمات وخصائص الفكر العربى الحديث، وبينا أن القضايا التى أثارها المجددون المعتدلون لم تكن وليدة تأملات فلسفية ولا انعكاس لثقافات غربية، بل كانت أكثر حداثة من غيرها من حيث أصالتها وانتمائها للواقع المعيش والمسحة النقدية التوجيهية التعليمية التى تهدف إلى الإصلاح والتنوير وتأهيل العقول للنهوض من جديد- وهى بذلك تمثل فلسفة المقاومة- تلك التى تدعو إلى العزوف عن التقليد، والاستغراق فى القديم أو جحده تمامًا من جهة- ورفض فى الوقت نفسه- تقليد الغرب والسير فى ركابه وطمس الهوية والمشخصات العرقية والمسحة الدينية والرد على الداعين لمقاطعة الحداثة، والوافد من العلوم والآداب والنظم الحضارية التى ينتجها الغرب من جهة أخرى. 
كما أكدنا أن قضية الأصالة والمعاصرة أو القديم والجديد، كانت بمثابة النقطة المركزية التى انطلقت منها كل الخطابات النهضوية، سواء كانت محافظة أو محدثة أو مجددة. ومقامة حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحى، لم تكن سوى شكل من أشكال الخطابات التنويرية التى أنتجها زعماء الإصلاح فى ثوب أدبى لإيقاظ الرأى العام وتوعيته وتثقيفه، وقد أكد البحاثة عبدالمحسن طه بدر (١٩٣٢-١٩٩٠)، أن مقامة حديث عيسى بن هشام من أهم الخطابات التوجيهية فى القرن العشرين، وهى تشكل حجر الزاوية بين إحياء النفيس من التراث التليد وتهجين الثقافة العربية بالطريف والمستحدث من الأدب والفن من الوافد الجديد، وذلك بمنأى عن التحيز أو التطرف أو التعصب، كما أن محمد المويلحى فى حكاياته التعليمية كان أقرب إلى المحافظين المستنيرين منه إلى الليبراليين المجددين، ويرجع ذلك إلى بنيته الثقافية وخصاله التربوية التعليمية، فلم يكن- كما ذكرنا- من دعاة التغريب، ويبدو ذلك فى رفضه العديد من مظاهر المدنية الغربية التى تسللت إلى مجتمعاتنا العربية فى غفلة من رجالها الجامدين، وبقوة مدافع الغزاة المحتلين، كما أن دفاعه عن أصالة المشخصات القومية والدينية التليدة، لم تمنعه من نقدها وغربلتها لتنقيتها من آفات الجمود التى حاقت بها فحجبتها عن مسايرة الواقع المعيش. ولعل تأثره بمحمد عبده ودعوته إلى تحرير الفكر من قيد التقليد هو الذى دفعه للسير فى هذا المضمار، وميز كتاباته التعليمية عن كتابات الطهطاوى وعلى مبارك التى كانت أقرب إلى الاتجاه الليبرالى المعتدل فى دعوتها لفتح الأبواب والنوافذ أمام التحديث والتجديد، شريطة ألا يتعارض ذلك مع الثوابت والمشخصات التى تميز الهوية المصرية عن دونها. 
وقد كتب المويلحى حديث عيسى بن هشام على غرار مقامة بديع الزمان الهمذانى- كما ذكرنا- وجعل أسلوبها جامع بين الهزل والجد والوضوح والألغاز والتصريح والتلميح والنقد المباشر والنقد الخفي، شأنه شأن معظم كتاب المقامات من أصحاب الأقلام الإصلاحية التعليمية ورواد فلسفة المقاومة، ولعل عباراته التى وضعها فى مقدمته لهذا الكتاب ترمى إلى تحديد مقصده من كتابة هذه المقامة، أو إن شئت قل هذه الحكايات القصيرة تعبر عن منهجه الوسطى وأسلوبه الحداثى ومآربه النقدية الإصلاحية، لكل ما يصادفه فى ثقافتنا المعاصرة، أى فى مطلع القرن العشرين، والغريب أننا سوف نلمح فى نقداته وإيماءاته صدق صاحبها وإخلاصه لرسالته، ولا ينبغى علينا أن نتعجب إذا تصورنا أن المويلحى قد كتب ما كتب ليصور ما نحن فيه الآن من كرب وبلاء!!
يقول المويلحي: «إن هذا الحديث وإن كان فى نفسه موضوعا على نسق التخيل والتصوير، فهو حقيقة متبرجة فى ثوب خيال مسبوك فى قالب حقيقة، حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم، وأن نصف ما عليه الناس من مختلف طبقاتهم من النقائص التى يتعين اجتنابها، والفضائل التى يجب التزامها». ويعنى ذلك أن الحكاية واقعية من حيث المضمون وما تحمله من قضايا وأفكار، وهى خيالية فى شكلها الخارجى وأحداثها العارضة والأشخاص الذين يسيرون الأحداث ويثيرون القضايا، وأن المقصد واضح هو مناقشة الأوضاع الاجتماعية والمفاسد التى حاقت بسلوك أفراد المجتمع على اختلاف مواضعهم ومكاناتهم الاجتماعية والسياسية. 
أما بطلا الرواية فجعلهما المحور الرئيسى لكل القضايا والمشكلات التى أثارها، وهما محمد المويلحى الراوى الذى يمثل شخصية عيسى بن هشام، أما البطل الثانى فهو أحمد باشا المنيكلى- أحد نظار الجهادية فى عصر إبراهيم باشا ابن محمد علي- الذى قابله عيسى بن هشام خلال سياحته بين القبور، إذ وجده خارجًا من إحداها لا يستره سوى كفنه. ولعل المويلحى رسم بطل حكاياته على هذا النحو الخرافى للتعبير عن عدة قيم وتصورات، أهمها أن هذا البطل يمثل الجيل الماضى بكل ما فيه من عادات وتقاليد وقيم وأفكار ومعارف، تلك التى لم تمت الموت الأبدى، بل أصابها الوهن فظنها أهلها أنها ماتت فدفنوها، فبعثت ثانية مجسدة فى شخصية الباشا وراحت تلك الشخصية تنظر حولها فلم تجد سوى أطلال وقبور، وذلك الفتى الذى يدعى عيسى بن هشام، وهو البطل الأول الذى رافق الباشا فى رحلة عودته ثانية إلى الحياة وسياحته التى تفقد خلالها أوضاع المجتمع وسلوك أهله. وإليك عزيزى القارئ محاكاة للحوار الذى دار بين البطلين فى المشهد الأول أى فى مطلع الحكاية. 
ذكر عيسى بن هشام، أنه انطلق ذات يوم يتفقد المقابر ويتأمل الراقدين من الأموات الذين مضت أزمانهم وصارت أخبارهم من زمن فات، مرددا سبحان الخالد القادر المعز المذل، والمعاقب لكل كافر وغادر، والمثيب لكل صابر وشاكر، فإذا بأحد القبور ينفتح وتنقلب أمامه الظلمة إلى نور، ويخرج منها مخلوق أشبه بالمارد الذى تحكى عنه الحواديت، أراد استيقاف عيسى بن هشام محلقا فى وجهه وعينيه، سائلا إياه سؤال العاقل الناقد: ما اسمك؟ وما عملك؟ وما الذى جاء بك هنا؟ فأجابه عيسى: اسمى عيسى بن هشام، وعملى صناعة الأقلام، ولا أمتلك سوى المداد وعلم الأجداد والأنداد، وجئت هنا لأعتبر بزيارة المقابر، فهى عندى أوعظ من خطب المنابر.
حسبنا هنا أن نشير إلى تلك المقابلة التى وضعها محمد المويلحى بحرفية متقنة بين البطلين، ترمز فى مكنونها إلى الصدام بين الماضى والحاضر، والقديم والجديد، والأصيل والدخيل، والضابط الكبير ممثل السلطة فى الزمن الماضى والرجل المثقف المعاصر، فشخصية عيسى تعبر عن الحاضر الحى وإحدى آليات المعرفة والعلم والتوجيه. وقد ضاق بواقعه فراح يلتمس الصبر والعظة من سكان المقابر، ولعله أراد من هذا التقابل الذى يميز البطلين التمهيد إلى حمل المفارقات والمواقف على ما سوف يأتى من الأحداث بينهما. على الرغم أن كلًا منهما يحمل شعلة المقاومة المحملة بأدواء الوافد الدخيل وأدوية الثابت الأصيل.وللحديث بقية..