التهويل والتهوين وجهان متناقضان يميزان النهج الذى ينتهجه الإعلام الغربى فى تغطيته للأحداث، فوسائل الإعلام التى تقتحم كل بيت، والتى تخاطب أفراد الأسرة جميعًا، والتى تقدم مادتها الإعلامية فى إطار من الترفيه أو التسلية، تستطيع فى كثير من الأحيان- بالتهويل أو التهوين مرة وبالإلحاح والإيحاء مرات - أن تضلل عقل الإنسان وتزيف وعيه وتنحرف بإرادته فى اتجاهات مرسومة مقدمًا.
فإذا أخذنا التليفزيون، كمثال نعايشه يوميًا، سنجده يزيف الوعى التجارى لدى المشاهد بالترويج لسلع معينة بين الناس، حتى لو لم يكونوا فى حاجة ماسة لها، وحتى لو كانت احتياجاتهم الحقيقية تتعلق بأشياء مختلفة عنها كل الاختلاف. ولكن الإلحاح عليها يتكرر ويتكرر تطبيقًا لقاعدة فى فنون الإعلان تقول إن «نقطة الماء إذا نزلت وباستمرار، على نفس البقعة من كتلة الحجر فإنها قادرة فى يوم من الأيام أن تفلقها». وهكذا فإنه بالإلحاح والتكرار المستمرين تصبح السلعة الكمالية ضرورة تكاد تستحيل الحياة بدونها.
وعلى النحو نفسه يتم الترويج للقيم والأفكار، عن طريق تضخيم أحداث ضئيلة الشأن، والتهميش والتعتيم على الأحداث الكبيرة. ومن ناحية أخرى نجد هذا الإعلام الغربى نفسه يغض الطرف عن ممارسات إسرائيل التى دأبت على انتهاك القانون الدولي، ويتغاضى عما تقوم به إسرائيل من ضرب القرارات والمواثيق الدولية بعرض الحائط، على سبيل الدلالة لا الحصر: إجراءات إسرائيلية داخل المسجد الأقصى المبارك والبلدة القديمة لمدينة القدس المحتلة، مما يمثل انتهاكًا صارخًا لقرارات المجتمع الدولى ومواثيق الأمم المتحدة التى أكدت على الوضع التاريخى لمدينة القدس ومقدساتها.
إن الإجراءات الإسرائيلية فى القدس تهدف لتقسيم المسجد الأقصى على غرار ما حدث فى الحرم الإبراهيمى بالخليل، وهناك دعوات إسرائيلية صريحة لهدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان، ومع هذا يتغافل الإعلام الغربى ويُهَوِّن من شأن ما يحدث فى القدس وسائر الأراضى الفلسطينية المحتلة، فى الوقت الذى هاجم الإعلام الغربى حزب الله وندد به!!.
براعة الإعلام الغربى فى التهويل لا تضاهيها إلا براعته فى التهوين. إن مقارنة ضخامة المساحة الإعلامية التى يخصصها الإعلام الغربى لطغيان أى نظام حكم عربى واستبداده بضآلة تلك المساحات التى يخصصها لعدوانية الاحتلال الإسرائيلى واستبداده ضد الفلسطينيين، إنما تكشف حقيقة النهج الذى ينتهجه هذا الإعلام، الذى أقل ما يقال عنه أنه إعلام مضلل يفتقر إلى الموضوعية والنزاهة.
قد يبدو هذا الحكم للوهلة الأولى جائرًا ومتسرعًا، غير أن النظرة الأكثر عمقًا ترجح هذا الحكم وتؤكده، ذلك لأن الإعلام الغربى يبدو فى الظاهر وكأنه الإعلام الحر المتاح للجميع، بل يتخذ من هذا المظهر «الليبرالى» دعامة أساسية لدعايته، على أساس أنه يتفوق به على إعلام النظم الاستبدادية تفوقًا ساحقًا، ولكن هذا ليس إلا المظهر الخارجى فحسب – كما يقول الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه «التفكير العلمى» صفحة ١٢٠ – إذ إن الإعلام الغربى لا يعبر إلا عن مصالح فئة واحدة من الناس، هى الفئة القادرة على أن تمول الإعلام بإعلاناتها، ومن المعلوم أن الصحف الكبرى ومحطات التليفزيون تعتمد فى تمويلها – كليًا أو بنسبة كبيرة – على أموال المعلنين، هذا فضلًا عن أن هذه المؤسسات الإعلامية الرئيسية هى فى أغلب الأحيان «شركات» تُسَيّر أعمالها وفقًا للمنطق الرأسمالى البحت، ولا يمكن أن تسمح بإعلام يؤدى إلى هدمها. وهكذا يفتقر هذا الإعلام إلى الصدق، وإن كان يتبع أساليب أذكى، وأبعد عن الطابع الصريح المباشر، من تلك التى يتبعها إعلام النظم الاستبدادية.
خلاصة القول أن الإعلام الغربى إعلام مضلل، يتلاعب بالعقول، والتلاعب بالعقول لا يتماشى مع الحرية والديمقراطيـة التى يتغنى بها الغرب. وإذا كان المواطن فى بعض مجتمعاتنا العربية يخضع لاستبداد الحكّام، فإنه فى الغرب يخضع لاستبداد الإعلام، الفارق بين هذا وذاك هو أن المواطن فى مجتمعاتنا العربية يدرك أنه مسلوب الحرية، فى حين أن المواطن الغربى لا يدرك ذلك، بل على العكس، يتباهى بأنه يمارس أعلى درجات الحرية، غافلًا عن أن الإعلام البارع بأساليبه المدهشة يتغلغل إلى كل خلايا مخه، ويوجهه إلى الوجهة المرسومة له مسبقًا.
إن الحاكم الحقيقى فى المجتمعات الغربية ليس رؤساء الدول والحكومات، وإنما ملاك الصحف والمجلات الكبرى ومحطات الإذاعة والتليفزيون، هؤلاء هم الحكام الحقيقيون الذين يحاسبون رؤساء الدول والحكومات ويسقطونهم، فى حين لا يحاسبهم أو يسقطهم أحد. هذا هو الوجه الآخر للديمقراطية الغربية، لكنه الوجه القاتم والقبيح.