«إذا عض كلب رجلًا، فهذا ليس خبرًا.. أمّا إذا عض رجل كلبًا، فهذا هو الخبر».. هذه إحدى أهم المقولات التى قابلتنا فى كتب الإعلام، عند دراسة قواعد كتابة الخبر الصحفى كما تعلمناها فى كليات الإعلام.. بمعنى أن الخبر الصحفى من المفترض ألا يعتمد على المعلومات البدهية التى لن يلتفت إليها أحد، وإنما يعتمد على المعلومات غير المألوفة، والتى تحمل من الغرابة ما يجعلها تجذب اهتمام القارئ وتثير فضوله.. ورغم أن الخبر الصحفى الآن يعتمد على إحاطة القارئ علما بالأخبار من حوله، كحق من حقوق الإنسان فى المعرفة، وبالتالى لا يتطلب فقط الخروج عن المألوف لجذب القارئ.. إلا أن هناك أخبارا يمكن أن تثير القراء عن غيرها، وتصبح بلغة العصر «تريند» بمعنى الأخبار الأكثر بحثا على وسائل التواصل الاجتماعى على الإنترنت.. ولأن وسائل التواصل أتاحت الآن فرصة التعرف المباشر على ردود الأفعال تجاه الأخبار، من خلال حجم المشاركات والتعليقات، وبالتالى القياس النسبى لاهتمامات رواد المواقع الإلكترونية، ومعرفة الموضوعات المثيرة لانتباههم، وهو ما يتيح للمختصين الرصد والتشريح الاجتماعى، حتى نوصَف ونعالج الأمراض الاجتماعية التى اجتاحتنا.. ومنذ أيام قليلة نشرت بعض الصور للفنان الكبير رشوان توفيق فى جنازة زوجته -والدة المذيعة المثقفة والراقية هبة رشوان- كانت الصور تعبر بصدق عن الألم والحسرة التى يعانى منها، وهو يبكى بحرقة على فراق شريكة العمر.. ولم تمر دقائق حتى قام الكثيرون بنشر هذه الصور على صفحاتهم على الفيسبوك، متناقلين كلماته وتعبيراته عن حبهما ورحلة كفاحهما، من خلال مقاطع فيديو من برامج ظهر فيها متحدثا عن زوجته قبل رحيلها.. وهو يروى قصة عشقه لها منذ كان طالبا فى معهد الفنون المسرحية عام1957، حيث تزوجها فى بيت والده وهو لا يزال طالبا، وكانت هى فى السابعة عشر من عمرها، وبعد تخرجه مباشرة تم تعيينه فى التليفزيون يوم افتتاحه الموافق ذكرى ثورة 23 يوليو 1960.. ومن ضمن كلماته عنها: «زوجتى شالتنى وأنا طالب ومفلس.. وتحملت معى الصعاب التى واجهتها.. وعاشت معى رحلة كفاح طويلة على الحلوة والمرة.. وعمرها ما اشتكت.. مراتى كانت ملكة جمال، وربنا حفظنى بجوازى منها.. لم تشعرنى ولو ليوم واحد أننا نمر بأزمة.. وأنا لا أخرج من المنزل حتى أظل بجوارها لأنها مريضة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأطلب من أحفادى أن يبقوا بجانبها ولا يتركوها أبدا.. وبقولها أنا بحبك دلوقتى أكتر ما كان عندك 17 سنة».. وتم تداول رسالة- منسوبة إليه- بعد وفاتها يقول فيها: «أنا كنت عايش بيها وليها، هى اللى كانت بتهون عليَّ الحياة.. كنت لما أزعل من حد أروح على طول اشكيلها.. كنت بأتمنى أخلص الشغل بسرعة وأروح البيت عشان أشوفها.. كنت صغير وكبرت وهى معايا..كنت فقير وغنيت وهى معايا.. كنت فاشل ونجحت وهى معايا.. محدش كان يعرفنى وبقيت نجم مشهور والدنيا كلها عرفتنى وهى معايا.. كنا لما نتخانق واسيب البيت اطلع اقعد على القهوة مع أصحابى، ولما ارجع البيت ألاقيها بتحضنى وبتستقبلنى وكأننا متخنقناش.. لما كانت بتضيق الدنيا علىَّ واحس أنها خلاص قفلت من كل ناحية كنت بابص عليها، ودعوة منها أبواب السماء كلها تتفتح من تاني.. عمرى ما قعدت فى البيت من غيرها..كنت شاب وكانت تستنانى.. كبرت وهى برضه بتستناني.. عجزت وهى بتستناني.. العمر راح وهى بتستناني.. دلوقتى انا اللى هستنى.. هستنى إنى أموت عشان أقابلها.. أستنى أموت عشان أشوفها.. عمرى ما تخيلت أعيش لحظة واحدة من غير نصى التاني.. إنتوا شايفين إنى ببكى وعنيا مليانه دموع، أنا ببكى دم من قلبي.. أنا أول مرة اتكسر.. أول مرة أحس فعلا إن الدنيا متساويش أى حاجة.. بستغرب إزاى الواحد ممكن يزعل مراته أو حتى يكرهها أو يطلقها بسهولة كدا؟! إزاى تتخلوا عن نصكم التاني؟! إزاى تضحكوا وتعيشوا حياتكم عادى بعد موت زوجاتكم أو حتى يكونوا عايشين وتكونوا منفصلين عن بعض.. آه يا اللى خدتى كل الحياة معاكي.. سبتيلى إيه فى الدنيا بعدك يا نصى التاني».. ورغم أن دموعه وألمه من المفترض أن يكونا شيئا طبيعيا، لرجل فقد شريكة حياته ونصفه الآخر، والتى قضى معها ستين عاما تقريبا.. إلا أن مدى الاهتمام والمشاركات والتعليقات على صور الفنان الكبير، وإعادة نشر كلماته وتداولها تظهر أن وفاء الزوج لزوجته وبكاءه وحسرته عليها، أصبحت خبرا لافتا للنظر، وباعثا للاستغراب.. وهو ما يجعلنا نتأمل حالنا ونتساءل: هل وصلنا إلى فقدان قيمة الوفاء التى تجعلنا نتعجب من حب رجل لزوجته، ووفائه لها رغم مرور عشرات السنين لزواجهما، فتذهلنا وتبهرنا دموعه على فقدان شريكته التى قضى معها أغلب عمره؟!.. وكأن الطبيعى أن نرى المشاعر باردة، والعيون متحجرة، والقلوب أشد قسوة من الحجارة!!.. فلماذا وصلنا إلى هذا المدى من فقدان الثقة فى شركاء الحياة؟!.. وأصبحنا لا نتوقع أبسط حقوق العشرة ممن نتقاسم معهم خير الحياة وشرها؟! وكيف نتعجب من أن يحزن بعمق ويبكى بحرقة من ألم الفراق، ودماء شريكة العمر لم تجف فى قبرها!!.. لقد أوجعت صورة هذا الفنان الرقيق وكلماته قلوبنا، التى أنهكها الغدر فى هذا الزمن.. والذى يندُر فيه المشاعر الصادقة والإخلاص والحب والرضا.. فتحولت دموع الوفاء إلى خبر جلل فى زمن عز فيه الوفاء!!
آراء حرة
الوفاء في عصرنا أصبح خبرًا!!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق