ما هو المعنى الذى يرمى إليه قرار الشركة القابضة للنقل البرى والبحرى طرح ثلاثة تماثيل من البرونز للرئيس عبدالناصر فى شهر ثورة يوليو وفى عطر ذكراها السابعة والستين؟
هل المعنى أن تحصل الشركة على عائد بيعها لكى تسد فجوة فى تمويل خزانتها والعجز بالموازنة.
لا أريد أن أقترب إلى المدلول التاريخى للقرار، ولا أريد فى هذا اليوم الذى يستمتع فيه المسئولون بالشركة بنعيم الإجازة التى منحها لهم القانون بمناسبة ثورة يوليو، والتى أصبحت أمجد أيام حياتنا، فهل هذه أفضل طريقة للاحتفال بهذه المناسبة على طريقتهم ببيعهم التماثيل؟
أنا شخصيًا أقسم بأغلظ الإيمان أن اللواء صلاح الدين حلمى، الرئيس الجديد للشركة، برئ تمامًا من القرار فالرجل جندى يعرف معنى الالتزام والرؤية المتكاملة للأمور ولا أتصور أنه بتاريخه النظيف بتولى إدارة المرفق الحيوى الذى يحتاج لتصويب مساره وأشغال شاقة وقدرة فائقة على مواجهة التحديات العديدة.
أقطع بأن عملية بيع التماثيل البرونزية للرئيس عبدالناصر فى المزاد العلنى للشركة التى كان عبدالناصر صاحب الفضل بتأسيسها وبالصورة التى نشرت بتوقيتها يعنى انعدام سلطة التقدير ويعكس العبث، ومن إيجابيات هذا التصرف أن الرجل الذى يتصدر العمل أدرك ما يحيطه من المكائد الوظيفية، وأن المعالجة الهادئة من الوزير الدكتور هشام توفيق، وزير قطاع الأعمال، بأن اتخذ قرارا لا يتحمل الإرجاء بوقف إجراءات البيع وتسليمها لوزارة الثقافة، لتعيد ترميمها وضمها بمتحف الزعيم بمنشية البكرى بالقاهرة.
كانت أول مكالمة تلقيتها حول الواقعة من الدكتور كمال قنديل، عميد كلية العلوم الأسبق ورئيس نادى أعضاء هيئة التدريس ورئيس الجمعية التعاونية لإسكان الجامعة، وشعرت بالحسرة لهذا القرار فإنه وزملاؤه طلبوا أن يعرضوا أضعاف القيمة المطروحة من السعر الاستكشافى للمزاد لمنع فعالياته، وقال إننا سنوزعها فى نادى الجامعة وهو أول هيئة مدنية بعثت ببرقية تأييد للثورة والثانى سنهديه لمنزل الزعيم بباكوس والثالث بمدرسة رأس التين التى تعلم فيها، وبعد ما أحدثه هذا الخبر من دوى داخل العالم العربى أذيع قرار وزير قطاع الأعمال، لكن ما زالت هناك أسئلة مطروحة.. هل القضية فى قيمة التمثال؟ لكنه بعيد عن الأذهان ما قدمه عبدالناصر لمصر من عطاء، خاصة بناء الديموقراطية الاجتماعية، ولم تكن قراراته مجرد أداء سياسى بدون مدلول اقتصادى مركزًا على مفهوم الوطنية.
قامت ثورة يوليو بإعداد برنامج لحركة تصنيع طموح وبناء السد العالى وبناء ألف مصنع، فالوطنية الاقتصادية لا تقل مجدًا عن ساحة الحرب، وفى قطاع النقل البحرى كانت هناك شركات خاصة أبرزها الخديوية المملوكة للعظيم أحمد عبود باشا فهو صاحب أكبر شركة ملاحة لربط الشحنات فى بيكادللى أشهر ميادين لندن ويحمل المبنى اسم (بيت مصر) وأخرى للاقتصادى على يحيى وشركات عديدة منها شركة محمد رشيد وغيرها، وكانت تحظى الشركات برعاية خاصة من الثورة حتى وقع فى ميناء نيويورك حادث تعرض البحار المصرى محمد عز الدين لتعدى أحد المتطرفين الإسرائيلين عليه وعلى مشهد من البحارة الأجانب وأجمعوا على استنكار التطرف بكل اللغات وصمم على اللجوء للسلطات لإثبات الواقعة واتجهت الصحافة الأمريكية للدفاع عن الإسرائيلى ووجدت الدولة المصرية تجاهلًا من المسئولين عن السفينة التى تملكها الشركة الخديوية وغضبت من تصرفه للجوء للسلطات الأمريكية وأحدثت الواقعة ردود فعل عالمية، ونشطت اللجنة النقابية للبحارة برئاسة أحمد عثمان وأجرى اتصالات وطلب عقد اجتماع لمنظمة العمل الدولية وبدأت تتجاوب وظهرت إنذارات لمقاطعة البواخر التى تخالف الإجماع الدولي.. وعندما علم عبدالناصر عقد اجتماعًا مع الدكتور محمد حافظ غانم وسعيد العريان واستقر فى عقيدته سلامة الموقف المصرى وشرح للعالم القضية الفلسطينية من فوق هذا المنبر، وطلب منهما أن ينضما كمستشارين لرئيس نقابة البحارة الذى سيحضر الاجتماع الدولى فى جنيف وأعربا عن أنها مهمة وطنية ستحمل نتائجها أمام القيادة ومصر شكلت مجموعة برئاسة عبدالناصر مثلت وزارة الخارجية بقيادة د. محمود فوزى ومصطفى خليل، وزير المواصلات ود. عزيز صدقى وكلف عبدالناصر بالإشراف على قطاع النقل البحرى والتعرف على إمكانية التوجه بها نحو مسيرة التنمية ودعم اتحاد العمال العرب برئاسة محمد أسعد راجح واستطاع خلال إخلاصه إن تجتمع الكلمة الإيجابية حول الوحدة العربية.
أصبح النقل البحرى بمقدمة القطاعات الأساسية للدولة وتنبه الرئيس عبدالناصر أثناء هذه المعركة ماذا يمكن أن يلعب القطاع من أدوار سلبية إذا ترك فيه الحبل وتبين شكوكه حينما حرص أن يستقبل العامل محمد عز الدين وفوجئ عقب المقابلة بعرض قضيته على المحافل الدولية بقرار (رفده) من العمل ولا يمكن تفسيرها ونترك المهمة لفطنة القارئ.... كلف الزعيم مجموعة برئاسة مصطفى خليل لتقدم دراسة عن أوضاع العاملين بالبحر واكتشف تدنى رواتبهم وعدم توفير قواعد السلامة وتضخم البطاقة التى تقاس قيمة الأجر «بالقرش الديواني» رغم ما تحصل عليه الشركة من دعم مقابل تنظيم رحلات الحج واتضح أن المنظومة بعيدة عن استراتيجية تأمين الواردات والصادرات وأن نسبة ما يقوم به الأسطول لا يمثل رقمًا فى الميزان التجارى وقد تعرضت «نجمة الإسكندرية» للتفجير بميناء عنابة بالجزائر، حيث تصور الاستعمار أنها تحمل أسلحة واتخذ من بعدها إجراءات مناسبة لكى يدخل بكل قواه وتدبير الكفاءات البشرية وبناء السفن والترسانة البحرية ودعم قطاع التوكيلات وربط الشحنات عن طريق شركة متخصصة واستحدثت الحاويات حاليًا وإشراف هيئة الميناء التى اختار لها زميل دفعته اللواء حسن صنديد وأصبحت مسيرته تنطلق كل يوم.
إذن لم تكن بين عبدالناصر والقطاع والعاملين به أى عداوة حتى يفكر المسئولون ببيع تماثيله فى مزاد علني.
الغريب أن هذه الشركة تضم بمبنى إدارتها زعيم الحركة النقابية جبالى المراغى، رئيس اتحاد العمال ومروان السماك، نجل اللواء محمود السماك، المشرف على شئون الضباط بالكلية البحرية سابقًا وغيرهم.
السؤال الساذج الذى يطرح نفسه من الذى كان سوف يشترى هذه التماثيل عند عرضها بالمزاد؟ هل كان يقوم بتقديم هذا المعنى البرونزى هدية لكى تلتهمه أفران مصانع الحديد التى أسسها عبدالناصر؟.. هل يريد أن يبيعه خردة لفرن صهر المشاهير بمصانع النحاس التى دعمها عبدالناصر، حيث كانت مرشحه لصهر تمثال الخديوى لكى تحمل مصلحة صك النقود أزمة الفكة ليتحول لملاليم؟
لولا تقدمت نائبة سكندرية ببيان عاجل فى جلسة للبرلمان تم إنقاذ تمثال الخديوى فى آخر لحظة وأحدث الإجراء ضجة فى الأوساط الثقافية فى الدوائر العمالية، فهل كان يريد إهداءه لمصانع حديد الدخيلة؟.. ولكن ما هو العائد من بيع تمثال البرونز لجمال عبدالناصر؟
جاء توقيت التنفيذ قبل أيام من الاحتفال بذكرى 23 يوليو، فهل كان يعادى أصحاب المدارس الخاصة بقرار مجانية التعليم التى خلقت بنية أساسية من الكوادر فى كل ساحة؟ وهل يعادى القرار لدى طبقة النبلاء؟.. لكن السيطرة على القرار السياسى أمر انتهى للأبد ورجل صنع التاريخ استطاع أن ينجو بمصر من المصيدة القاتلة التى تريد أن تحكم البلاد بأسلوب (البلوتقراطية) وهى حكم الأثرياء.