حين قال آدم سميث: «دعه يعمل.. دعه يمر» تخيل أن السوق مجموعة فرص، ويتركز كل دور الحكومات فى ضمان عدم ارتكاب جرائم أثناء اغتنام الفرص.. كان يراهن على أن الاستثمار حق للجميع، وأن الفقراء فى سوق مفتوح يصبح الثراء حلما مشروعا لهم يفصلهم عنه بعض الوقت لا أكثر.
تعمل الدول الرأسمالية فى أوروبا وأمريكا على تطبيق أنظمة ائتمانية بنكية واسعة المدى، توفر تلك الفرص التى تمناها ماركس على استحياء أثناء رسمه لعالم يحترم المال وملاكه. إذ إن الائتمان ببساطة هو نظام للاقتراض والإقراض يضمن للجميع الحصول على الحقوق فى توقيتات وظروف مناسبة لكل الأطراف، وهو أمر لا علاقة له بالمصارف فى حد ذاته، لكن المواطنين لجأوا للبنوك كى تراقب عمل هذه العملية، وتضمن تحققها وعدم تهرب أحد أفرادها من تأدية حقوقه، وانتشر ذلك فى عشرينيات القرن العشرين، بل وشجع البنوك على أن تأخذ دور المقرض والمراقب فى ذات الوقت، تحول الأمر للآلية فى ثلاثينيات القرن العشرين، حين ظهرت بطاقة الإئتمان الآلية وجهزت البنوك آلات الصرَّاف الآلي. إن تزامن انتشار البطاقات الائتمانية مع توابع كل من الحربين العالميتين الأولى والثانية دعم النظام الاقتصادى الرأسمالى فى أوروبا على نحو كبير، إذ إن الدول الرأسمالية تواجه شبحين يجب أن تعمل على إلغائهما، التضخم (بضائع كثيرة ولا شراء) والبطالة.. لأن الرأسمالية يجب أن يتم تداول رأس المال فيها.. لذا يلزمها تبنى نظام ائتمانى للفقراء.. بمعنى أن يصبح بإمكان كل شخص أن يدخل منظومة الائتمان، ويصبح له الحق فى الحصول على راتب أو معاش أو مبلغ يوازى ذلك راتب أو المعاش حتى تضمن أن الأفراد سيعملون على الشراء وضخ عملة فى السوق، وبالتالى يقل التضخم أو على الأقل يتجمد ولا يزيد. كما تلجأ هذه الدول إلى تطبيق أشكال مختلفة من التأمين على رأسها التأمين الصحى الشامل أو شبه الشامل.. وتنشئ مشاريع تستوعب العمالة فى إطار نقود القروض الإئتمانية ومشاريعها.. أى أن الأفراد يجب أن يجدوا الجرأة للصرف، وهذا لن يتوفر حتى يطمئنوا أنهم لن يموتوا مرضًا أو جوعًا بفضل نظم ائتمانية تمكنها أن توفر لهم الطعام والسكن والدواء بشكل ميسر السداد بالنسبة لهم.
إن ذلك النظام يدعم البنوك فى حالات الأزمات الاقتصادية المختلفة. إذ ليس بالضرورة أن يزداد الفقراء فقرا مع هذه الأزمات فى ظل نظم ائتمانية خاصة تسترد منهم القروض على فترات متباعدة وبأقساط ضعيفة، تساعد على ثبات دورة تبادل النقد مع البنوك على المدى الطويل، بينما تبدأ الطبقة المتوسطة فى التقلص وتشعر بالضياع نسبيًا لأنها غالبًا تحتاج لمشاريع صغيرة فوق طاقة البنوك، التى تسخر كل طاقتها فى سرعة الحركة قبل أن يهلك الفقراء الذين يمثلون العدد الأكبر.
إن النظام الرأسمالى يقوم على فتح السوق للجميع كفكرة أساسية. ومن ثم حين تصبح كمواطن «مؤمنًا» عليك و«مؤتمنًا»؛ فإنك تستطيع المغامرة فى السوق إذا ضمنت أنك لو خسرت القليل الذى تملكه ستجد أجرًا تتكئ عليه حتى الدخول القادم للسوق، بل والأكثر أنك حتى لو لم تكن تمتلك القليل الذى تقتحم به السوق؛ فإن هناك أنظمة ائتمان، تعطيك من خمسة إلى عشرة آلاف جنيه بضمان مرتب محدود نسبيًا وفترة سماح مناسبة. وبهذا يصبح الحصول على المال متاحا من أكثر من مصدر ائتمانى قانوني، مما يضمن استمرار دوران المال فى السوق بمبالغ صغيرة، يضمن هذا فى حد ذاته السيطرة على التضخم ورد القروض إلى حد بعيد ونمو اقتصادى محدود لكن مضمون. يفسر لك هذا أن نمو البنوك ينشط أحيانًا فى بعض الدول الفقيرة، طالما عدد الفقراء كبيرا وهم يسددون قروضهم للبنوك.
إذا كان سميث حين قال: «دعه يعمل دعه يمر» دعا إلى تقليص تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية إلى أضيق ما يمكن بهدف الدفع بعجلة التنمية نحو الإيجاب، ومنه تحرير التعاملات والعلاقات الاقتصادية على أوسع نطاق ممكن؛ فتصبح بذلك الأسواق حرة تلقائية تحكم نفسها بنفسها. ثم قامت بعد ذلك الحكومات المتعاقبة فى فترات التنوير والتطور الإنسانى فى العصور الحديثة بوضع ضوابط لحماية الفقراء من آليات السوق الحر واحتكاراته، وكذا لحماية كل المستهلكين من أشكال الجشع والاعتداء على الحقوق التى يمارسها التجار غير الملتزمين بالضوابط المحددة. هو أمر يتناسب مع حاجة أصحاب رءوس الأموال دائمًا؛ لأن يقل عدد الفقراء حتى يجدوا من يتعامل معهم ماليًا فى السوق بأموال يملكها وتسمح برواج هذا التعامل.