تمثل ليلة الخامس عشر من يوليو ٢٠١٦، تاريخًا فاصلًا بالنسبة للدولة التركية رئيسًا وشعبًا وجيشًا وتجربةً، كان البعض يعوّل على نجاحها واستنساخها فى دول الربيع العربى ولا سيما جماعات الإسلام السياسى، ببساطة لقد انفجرت بالونة أردوغان الفارغة فى الجميع، ولم يكن هذا الانفجار مفاجئًا، وبخاصة للمتابعين للشأن التركى المأزوم فى الفترة التى أعقبت انهيار قطع الدومينو الإخوانية فى تونس ومصر وسوريا وليبيا والسودان.. أمصار وولايات الخلافة الأردوغانية المزعومة للخليفة الواهم رجب بن طيب أردوغان!
ليلة ١٥ يوليو 2016، كانت ليلةً سوداء داكنة فى تاريخ الجيش التركى والعسكرية التركية، لن يمحو أثرها إلا رحيل أردوغان، لقد أُهينت هيبة العسكرية التركية إهانةً بالغة لم تتلقاها منذ عصر الإمبراطورية التى حققها هذا الجيش بدمائه وتضحياته، إياكم أن تتصوروا أن مَن حاولوا إزاحة أردوغان عن الحكم لإضراره بالهوية التركية هم الإرهابيون، بل إن من تصدوا للجيش فى الشوارع والطرقات هم الإرهابيون الحقيقيون الذين آواهم أردوغان من تنظيميْ «داعش» و«الإخوان»، والذين يتلقون تدريباتهم العسكرية فى تركيا قبل الالتحاق بميادين القتال فى سوريا والعراق وليبيا واليمن، وما فعله هؤلاء الإرهابيون هو ردٌ للجميل لحليفهم التركى وخليفتهم الوهمى، ولن ينسَ الجيش التركى إذلاله على يد هؤلاء الإرهابيين وزعيمهم، بعد ما لطخ أردوغان الزى العسكرى التركى فى أوحال الإرهاب الذى إن حماه فى صيف العام 2016 فلن يحميه إلى الأبد.
وثمة قواسم مشتركة بين ما حدث ليلة ١٥ يوليو وليلة ٢٠ ديسمبر عشية اغتيال السفير الروسى فى تركيا؛ فكلا الحدثيْن شاهدهما الملايين على الهواء فى جميع أنحاء العالم على شاشات التليفزيون وشبكات التواصل الاجتماعى، وكلا الحدثيْن تم توظيف الإمكانات التكنولوجية فيهما؛ ففى الانقلاب استُخدم تطبيق لتليفون «أبل»، وفى الاغتيال استُخدمت كاميرا احترافية عالية الجودة لمصور تركى محترف يعمل لصالح وكالة أنباء «أسوشيتدبرس» الأمريكية.
وما يربط بين الحدثيْن فى عصر ما بعد الحداثة والتحليل السيميائى والأيقونى للعلامات والصور والشعارات، هو الترويج أثناء الانقلاب وبعده لأيقونة الجنود الأتراك العُراة الذين نزع الإرهابيون عنهم رداءهم العسكرى كرمز لإهانة الجيش التركى، وفى حادث الاغتيال تم الترويج لأيقونة الحارس الذى يرفع يديه وصوته كعلامة للنصر بقتل من يحميه ويحرسه، وهو المشهد الذى يبث الرعب والهلع فى كل بلدان العالم ممن يحرسونهم خشية أن يكونوا موتورين اخترقت أدمغتهم بعض الأفكار المتطرفة بفعل تفاعلهم مع بعض هذه الأفكار على شبكات التواصل الاجتماعى، أو تعاطفهم مع بعض دعايات الإخوان عن الجرائم التى تحدث فى حلب أو غيرها، والأدهى من ذلك أن الشعار الذى أطلقه القاتل التركى وهو رجل شرطة المفروض أنه رمز الدولة فى تأمين المواطنين والرعايا الأجانب عندما هتف قائلًا: «لقد بايعنا النبى محمد على الجهاد»، ليظهر أن هذا الهتاف هو جزء من مطلع نشيد من أناشيد جماعة «الإخوان» الإرهابية.
وما يربط بين الحدثيْن كذلك، هو أنه إذا كان الانقلاب الذى حدث ليلة ١٥ يوليو 2016، قد فشل إلا أنه أسقط الدولة التركية التى بدأت كل مؤشراتها السياسية والاقتصادية فى التهاوى منذ ذلك الحين، كما أن ما حدث ليلة ٢٠ ديسمبر من العام نفسه، قد أثبت بما لا يدع مجالًا للشك مدى الروابط والعُرى الوثيقة التى تربط الدولة التركية بجماعات وعصابات وإعلام الإرهاب، فقيام تركيا بتجميع المتطوعين من جميع أنحاء العالم وتدريبهم على فنون القتال فى أنطاكيا، ثم شحنهم لتنظيم «داعش» فى سوريا والعراق، وتورط نظام أردوغان وأسرته وأقربائه فى التعامل مع تنظيم «داعش» ومبادلة النفط بالأسلحة، وإيواء قيادات وأعضاء جماعة الإخوان الإرهابية، وإطلاق منصات إعلامية للجماعة تروج للإرهاب، والتعاطف مع الإرهابيين فى سوريا والعراق وليبيا، وأخونة القوات المسلحة التركية بتجنيد أعداد كبيرة من المنتمين لحزب «العدالة والتنمية» الإخوانى فى الجيش والشرطة.. كل هذا هو ما أودى بالدولة التركية وجعلها فى مصاف الدول الإرهابية، وأدى بالشرطى الإخوانى الموتور إلى تصفية السفير الروسى رغم أن الإسلام الحنيف قد حثنا على أن نؤمن الرعايا الأجانب والسفراء.
ما حدث فى تركيا صيف العام 2016، سوف يتم تدريسه كنموذج للانقلابات العسكرية فى عصر المعلومات؛ ما بين الممارسات الجيدة والممارسات الرديئة، سواء للرئيس والحكومة المنتخبة أو العسكريين الانقلابيين. فمن المفارقات أن هذا الانقلاب قد تم التمهيد له بتغريدتْين على موقع التدوينات المصغر «تويتر» لاثنيْن من أنصار جماعة فتح الله جولين والمسماة «الكِيان الموازى».
ومن الناحية المعلوماتية أيضًا، فإن الصراع على السلطة لم يكن بين العلمانية التى يحميها الجيش التركى منذ حُكم مصطفى كمال أتاتورك، وبين التراجع عن هذه العلمانية من قِبل أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية»، الذى يُعد أحد المكونات المهمة للتنظيم الدولى لجماعة الإخوان، بل كان الصراع فى الأساس بين فصيليْن يوظفان الدين لخدمة مصالحهما فى السيطرة على مقاليد الحُكم فى البلاد، فصيل أردوغان الإخوانى وظهيره الشعبى والمؤسساتى وفصيل فتح الله جولين الصوفى وظهيره العسكرى الذى تربى على أفكاره.
الأمر الثالث هو أنه من المستحيل ألا تكون الاستخبارات التركية والموساد والمخابرات المركزية الأمريكية وحلف الناتو قد رصدت ما يتم التدبير له بليْل داخل جناح من الجيش التركى، وبالتالى فإن ثمة معلومات أصبحت لدى أردوغان عن هذا الانقلاب قبل وقوعه، مكنته من وضع سيناريو محكم للتعامل معه وإفشاله، بدءًا من الاختفاء عن الأنظار فى إجازة غير محددة المكان، ولجوئه إلى استخدام تطبيق «فيس تايم» Face Time على أجهزة «آى فون» من شركة «أبل» الأمريكية، لمخاطبة الشعب التركى و«ميليشيات» حزب «العدالة والتنمية» فى الشوارع، ومن خلال قناة تليفزيونية فضائية خاصة فى ظل سيطرة الانقلابيين على التليفزيون الرسمى، علاوة على عودته الدراماتيكية وهبوط طائرته الرئاسية فى مطار إسطنبول بعد تأمين المطار، بل وإلقاء كلمة للشعب من داخل المطار، وقيامه صبيحة اليوم التالى بإرسال رسالة نصية إلى الشعب التركى يحثه على الحفاظ على الشرعية.
إن ما حدث فى تركيا فى ليلتيْ ١٥ يوليو و٢٠ ديسمبر 2016، سيظل علامة فارقة فى تاريخ الدولة العلمانية الحديثة التى استطاعت جماعة دينية متخلفة وإرهابية أن توردها موارد الهلاك، إن ما حدث فى تركيا بداية انهيار الدولة وتصنيفها بجدارة ضمن الدول الفاشلة والإرهابية، وما يحدث حاليًا فى صيف العام 2019 من اعتقال لعديد من ضباط الجيش التركى على خلفية ما حدث ضد أردوغان من ثلاثة أعوام يؤشر إلى أن المعركة بين أردوغان والجيش التركى لم تنته فصولها بعد.. وانتظروا إنا منتظرون.