إننا ننظر إلى «القانون» بوصفه أداة لتوجيه النشاط الإنساني، ووضع القيود على هذا النشاط. قد تبدو هذه الوجهة من النظر متناقضة مع الدعوة إلى حرية الإنسان، ولكننا نود أن نؤكد أن الحرية لا تعنى التحرر من كل قيد، فالإنسان لا يعيش فى حالة بدائية داخل جزيرة منعزلة. إن الإنسان لم يكن أبدًا متوحشًا منعزلًا وحرًا بهذا الشكل، بل هو كائن اجتماعى يدخل فى علاقات كثيرة معقدة ومتشعبة مع غيره من أفراد مجتمعه، ومن ثمَّ فإن الضوابط أو القيود لا تعنى اعتداءً على حريته، بل تمثل ضمانًا لهذه الحرية.
ظهرت الحاجة إلى «القانون» حين نشأ المجتمع وتَكَوَّن، بغية تنظيم علاقات أفراده المجتمع بعضهم بعضًا. إن لم يوجد مجتمع، لم تكن هناك ضرورة لوجود «القانون». وعلى ذلك، لو افترضنا أن إنسانًا يعيش وحيدًا منعزلًا دون غيره من البشر، لما كان هناك مجال لسن القوانين، إذ لا تنشأ بالنسبة لذلك الإنسان أية قيود تحد من حريته، ومن ثمَّ لا يحتاج إلى «القانون».
يولد الإنسان حرًا، له حقوق طبيعية سابقة على وجوده داخل المجتمع، ومن ثمَّ ينبغى أن يتمتع بهذه الحقوق فى جوانبها المختلفة. ولما كان البشر متساوين فى الحقوق، فإن ممارسة كل فرد لحقوقه قد تتعارض مع ممارسة الآخرين لحقوقهم. ومن أجل هذا، شُرِّعَ القانون، أى شُرِّعَ القانون لتهيئة ظروف ممارسة كل فرد حريته وحقوقه، فغاية القانون تنظيم ممارسة كل فرد حريته واستخدامه لحقوقه. وتأسيسًا على ذلك، لا ينبغى أن يتدخل القانون فى حرية الفرد إلا بالقدر الذى يساعده على تحقيق هذا الهدف الذى يسعى إليه، ومن ثمَّ فالمجتمع هو الإطار الذى يمارس كل فرد نشاطه من خلاله فى ظل سيادة القانون.
الإنسان بطبيعته كائن أناني، يميل إلى إشباع احتياجاته الفطرية وتحقيق مطالبه الشخصية، ونظرًا للحاجات المتعددة لأفراد البشر، ومحدودية الموارد الطبيعية ونقصها، ينشب صراع بين الأفراد من أجل إشباع حاجاتهم المتنوعة والدائبة، وينشأ التنافس بينهم على السلع والخدمات، ويكون من الضرورى «وجود القانون» لتنظيم علاقاتهم وإخضاعها للقيود، التى ترمى إلى تحقيق التوازن بين الجانب الفردى فى طبيعة الإنسان، والجانب الاجتماعى فى هذه الطبيعة، وضمان أمن واستقرار المجتمع، وهذا لا يتحقق إلا بتفعيل القوانين العادلة وتطبيقها على الجميع حكَّاما ومحكومين.
إن المجتمعات البشرية فى حاجة ماسة إلى القانون أكثر بكثير من حاجة التجمعات الحيوانية له، فالحيوان يقف عند الحاضر ولا يتجاوزه إلى المستقبل، فالأسد الجائع يعتريه التوتر نتيجة لهذا الجوع، ولذلك يسعى إلى دفع هذا التوتر والتغلب عليه بحثًا عن طعام، فيبحث عن فريسة وينقض عليها ويلتهمها بنهم شديد حتى يشبع ويزول جوعه. قد يتبقى جزء من الفريسة، يتركه الأسد وينصرف غير عابئ، لأنه فى هذه اللحظة الحاضرة شبع وامتلأ بطنه بالطعام، فلا حاجة به للاحتفاظ بما تبقى من الفريسة إلى الغد، هو لا يحتفظ ببقية الطعام، لأنه لا يفكر فى أنه ربما يجوع غدًا وقد لا يعثر على فريسة جديدة، إن الأسد وبقية أفراد المملكة الحيوانية لا تسلك على هذا النحو، الحيوان لا يعمل حسابًا للغد، لأنه يعايش الحاضر ويعجز عن تجاوز اللحظة، هو «يعيش اللحظة» بعمق وحيوية وتدفق، هو محكوم بوظائف بيولوجية معينة تدفعه دفعًا للسلوك على نحو دون غيره.
أما الإنسان فهو وحده دون سائر الحيوانات الذى يتطلع للمستقبل، إنه يخطط ويدبر وينشغل ويتوتر من أجل «المجهول»، من أجل واقع لم يتحقق بعد، لذلك يحافظ على طعامه، ويحتفظ بما تبقى منه للغد، لأنه «لا يدري» «ولا يأمن» ما الذى سيكون عليه الحال غدًا، بل قد يحتفظ بما يفيض عن حاجته غدًا وبعد غد. من هنا تَوَّلد الصراع الناجم عن فكرة «الاستحواذ» أو «الاكتناز» أو «التخزين».
فأنا أرغب فى الحصول على حاجتى وما يتجاوز هذه الحاجة أيضًا، وأنت بالمثل ترغب فى تحقيق الغرض نفسه، بينما نجد أن المتاح من الطعام أو المال محدود. من هنا ينشأ الصراع والاقتتال بين الناس.
وليس غائبًا عن البال تلك الثروات الطائلة التى يحققها بعض الأشخاص، حتى أنك تجد ثروة أحد الأشخاص تجاوزت مئات المليارات من الدولارات. ثروة ضخمة وهائلة تتجاوز احتياجات ذلك الشخص واحتياجات أولاده وأحفاده حتى قيام الساعة!! لماذا كل هذا؟ وما الأساليب التى جُمِعَت بها تلك الثروة؟ وعلى حساب مَنْ من البشر الآخرين جُمِعَت كل هذه الأموال؟
بل الأدهى والأمـرّ هو ما يحدث من تخزين للأسلحة. كل الدول تُخزن كميات هائلة ومتنوعة من الأسلحة، حتى الدول الفقيرة المعدمة، التى تعجز عن توفير الطعام لمواطنيها، تجدها لا تعجز عن تكديس الأسلحة الفتاكة بمخازنها!! فما بالنا بالدول الكبرى؟ كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وأغلب دول أوروبا، وكذلك إسرائيل ومصر وإيران والسعودية.. إلخ.
إن السعى إلى الحرية هو دافع طبيعى نجده بدرجات متفاوتة لدى الحيوان والإنسان على حدٍ سواء، لكن الحرية المطلقة فى عالَم البشر تؤدى إلى خلق مشكلات سياسية كبرى فأنا حين أكون حرًا فى فعل كل ما أريد، فإن هذا يعنى أننى حر فى حرمان الآخرين من حريتهم، ولذلك يرى «سارتر» أن حريتى تقف عند حدود حرية الآخر، فأنا حر إن لم أضر، فحريتى فى أن أفرد ذراعى مثلًا تقف عند أنف من يجلس بجواري.
يعمل القانون على تنظيم العيش فى المجتمع، كما يعمل على تحقيق نوع من التوازن والتناسق بين مظاهر نشاط أفراده، وإزالة التشاحن والتصارع بين المواطنين، ويسعى إلى ضمان توافر حقوق وواجبات الأفراد، وذلك فى إطار الظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأفكار الفلسفية السائدة فى المجتمع، بحيث إذا أدى كل فرد ما عليه من واجبات وتمتع بحقوقه، سادت الطمأنينة وعمَّ الاستقرار حياة المجتمع. وبذلك تكون وسيلة القانون لتنظيم المجتمع هى تقرير حقوق الأفراد من ناحية، وفرض واجبات عليهم من ناحية أخرى، وذلك من خلال تحقيق التوازن والانسجام بين المصالح المتعارضة للمواطنين. وتفعيل القوانين وتطبيقها على الجميع دون أي استثناءات.