مهما فعلت وفعلت الدول لا بد من انحلال الحضارات وتراجع أمم وتقدم غيرها كل فترة من الزمان، ولنا عبر كثيرة فى التاريخ منذ نشأة الخليقة.. فالحضارة المصرية القديمة التى ولدت قبل التاريخ وأراد الله لشمسها أن تنير الكون.. أين هى الآن وكذلك الحضارة اليونانية القديمة والأشورية والفينيقية وغيرها.. لم يتبق منها سوى معابد ومسلات تحكى التاريخ، ومقابر تذهل العالم، ونقوش وعلوم استفادت منها أمم جديدة لتخترق التاريخ وتصنع لنفسها مكانة بعد أن ترك الأولون مكانهم بحكم الزمن ودورته المحتومة، ورغم أن التاريخ لا يعيد نفسه دوما إلا أنه يستمر فى محاكاته للأمم.
فبعد القرون الوسطى والظلام الحالك الذى عاشته أوروبا فى القرن التاسع عشر.. كان لا بد من بركان جديد وزلزال قوى يعاد معهما صياغة لعالم جديد.. وبالفعل كانت الحرب العالمية الأولى بداية الانفجار، وأعقبتها عقود ثلاثة فقط، حتى خرج علينا الأمريكان ليقفزوا على المقدمة بعد أن أطاح هتلر بأوروبا وتسبب فى تراجعها.. ولم يظهر الأمريكان وحدهم بل شاركهم الاتحاد السوفيتى وقتها بعد أن هزم هتلر ومعه الطبيعة وتم القضاء على النازية.
وفى خضم السباق الأمريكى السوفيتى وحلفى الأطلنطى ووارسو بعد أن انقسمت أغلب الدول وانضمت إلى المعسكرين، وظهور الحرب الباردة من أجل السيطرة على العالم، ونسيان الماضى القريب.. ظهرت قوى ناعمة جديدة تجلت فى مجموعة عدم الانحياز، التى لعبت فيها مصر دورا كبيرا ومؤثرا مع يوغسلافيا السابقة والهند، وذلك من أجل احتضان الدول التى لا ترغب فى الانضمام إلى المعسكرين الأمريكى والسوفيتي.
واستغلت بعض الدول الحرب الباردة لتخلق لنفسها وضعا جديدا، مثل اليابان التى أذهلت العالم بعودتها إلى الواجهة من جديد بعد تدميرها فى الحرب العالمية الثانية، وموت الملايين بفعل القنابل الأمريكية التى سقطت على هيروشيما ونجازاكي..
ولم يقف الكوريون موقف المتفرج، بل أوجدوا لأنفسهم مكانة على الخريطة الدولية بفعل النقلة النوعية التى أحدثوها فى مجتمعهم بالتعليم والصحة.. وبدأت النمور الآسيوية تخلق لنفسها أيضا واقعا جديدا، خاصة سنغافورة وماليزيا.. وظل التنين الصينى يراقب ويتابع ويعمل فى صمت بقوة ودآبة منقطعة النظير، مستمدا ذلك من تاريخه التليد، وما يحاط به من قوى لا بد من التفوق عليها إذا أرادوا حجز مكان لهم فى المشهد الدولي.
وجاءت بداية التسعينيات لتخلق واقعا جديدا بحكم بروسترويكا جورباتشوف الرئيس السوفيتى الذى تمرد على الوضع القديم وقدم ربما أغلى هدية للماسونية العالمية، عندما أسقط بأفكاره المتحررة الكتلة الشرقية، وهدم المعبد القديم، وتقسم الاتحاد السوفيتى إلى دول بعضها انضم للمعسكر الغربى المناهض، والآخر حافظ على توازن العلاقات بين القطبين، والثالث انضم على استحياء إلى الاتحاد السوفيتي.. وبدأ واقعا جديدا سوف نتحدث عنه فى الحلقة المقبلة.. والله من وراء القصد.