الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

مراوغة بعض المثقفين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الآفة الكبرى التى تنخر حياتنا وتشوهها تتمثل فى بعض الصفوة أو النخبة - وبتعبير أوضح - فى بعض المثقفين الذين يوظفون كل ما حصلوا عليه من علم ومعرفة وثقافة من أجل تحقيق مصالحهم - وقد تكون مصالح رخيصة وتافهة - الواحد منهم يستعين بالمصطلحات والتعبيرات الأجنبية والألفاظ المنمقة والمناهج المنطقية والعلمية لتمرير مآربه، وتضليل الغير، وإخفاء مصالحه، وإيهام الناس بأنه من طلاب الحق والعدل!! فى الوقت الذى يعبر فيه الشخص العادى (أو ما اصطلح بتسميته «رجل الشارع») عن رأيه ومشاعره بطريقة مباشرة ودون مراوغة، وهذا أفضل بكثير مما يقوم به بعض المثقفين (وأنا لا أعمم ولا أصدر حكمًا مطلقًا، فلا شك أن هناك نماذج رائعة من المثقفين).
إن المثقف فى بلادنا - وأنا مرة أخرى لا أعمم، ولا أصدر حكمًا مطلقًا - يتصف بحب الذات الذى يصل إلى حد «النرجسية»، فهو يتصف بــ«الأنانية». وتتمثل الأنانية فى العبارة البسيطة القائلة: «أنا ومن بعدى الطوفان» أو «أنا وبأى ثمن» أو «أنا وأيًا كانت الوسيلة». إن هذه الأنانية قد دبت فى أوساط المثقفين فأصابت حياتنا الفكرية بالضعف والخوار. 
وبسبب النرجسية والأنانية سلك بعض المثقفين عندنا مسلك «مجتمع الصراصير»، كما يسميه «توفيق الحكيم»، دون قصد الإهانة أو السخرية: «فهو مجتمع مختلف عن مجتمع النمل، فالنملة عندما تعثر على قطعة سكر تجدها وقد اجتمعت حولها جماعة من النمل تتعاون على حملها، أما مجتمع الصراصير فهو مثل مجتمعنا اليوم قلما تجد مجموعة من صرصار تحمل فكرة وتعمقها وتفيد بها؛ لأن كل صرصار مشغول بنفسه فقط».
ولهذا - كما يقول توفيق الحكيم: «لا يوجد بناء فكرى أو فلسفى أو أدبى يقوم شامخًا متكاملًا، وإنما الموجود أفراد، كل فرد مشغول بفكرته يحملها وحده ولا يلتفت أو يهتم إلا بما يحمله هو. وهذا سر من أسرار تخلف مجتمع الصراصير».
ومن أسرار مجتمعنا أيضًا غياب بعض القيم الرفيعة، كقيمتى «العقل» و«الحرية»، إننا أحوج ما نكون إلى «العقل» كى ترقى حياتنا وتزدهر ثقافتنا. والعقل يعنى الفحص والتحليل، وفى كلمة واحدة، يعنى «النقد»، فليس هناك من هو فوق النقد. إن ما نقصده ونعنيه هو «النقد»، وليس «النقض» بمعنى الهدم، إن ما نرمى إليه هو النقد الإيجابى البنَّاء الذى يحمل فى طياته عوامل التقدم والازدهار ليبعث فى الأمة روح الحياة والتقدم.
إن من الواجب ألا يسىء المرء فهم معنى «النقد»، إذ إن له فى الحديث اليومى عادةً معنى أضيق من ذلك الذى نقصده. فعندما نقول فى حديثنا المعتاد، إننا «ننتقد ذلك الشخص»، نعنى عادةً إننا نجد فيه عيبًا. غير أننا هنا لا نستخدم «النقد» بهذا المعنى. وإنما نستخدمه بالمعنى الفلسفي، فـ«النقد» فى الفلسفة ليس تنقيبًا عن العيوب؛ والصحيح أن الفلسفة نقدية بمعنى أوسع. فهى فى هذا المعنى تفحص شيئًا لكى تحدد نقاط قوته وضعفه. وبهذا المعنى تكون الدراسة النقدية متعلقة بمزايا الموضوع الذى تدرسه فضلًا عن عيوبه، فالفلسفة ترفض قبول أى اعتقاد لا تثبت صحته بأدلة واستدلالات. والاعتقاد الذى لا يمكن البرهنة عليه بهذه الطريقة لا يستحق ولاءنا العقلي، وهو عادةً مرشد غير مأمون للسلوك. وإذن فالفلسفة تأخذ على عاتقها مهمة البحث الفاحص فى الاعتقادات التى نكون قد قبلناها بطريقة غير نقدية من سلطات متعددة. ولا بد لنا أن نتخلص من ضروب التحامل والانفعالات التى تشوه اعتقاداتنا فى كثير من الأحيان. ولا تقبل الفلسفة السماح لأى اعتقاد باجتياز الاختبار لمجرد كونه مستندًا إلى تراث، أو لأن الناس يجدون رضاءً انفعاليًا فى الأخذ به، كما أن الفلسفة لا تقبل اعتقادًا لمجرد كونه يُظنّ متمشيًا بوضوح مع «التفكير الشائع»، أو لأن أناسًا حكماء قد نادوا به. وإنما تحاول الفلسفة ألا تأخذ أى شىء «قضية مسلمًا بها»، أو «على أساس الثقة». فهى تكرس نفسها للبحث الدائب الصريح، كى تتأكد إن كانت لاعتقاداتنا مبررات، وتعرف إلى أى مدى تكون لها هذه المبررات. وعلى هذا النحو تعصمنا الفلسفة من الانحدار إلى مستوى القبول الأعمى لكل ما يُعْرَض علينا من آراء وأفكار.
إن بعض المثقفين والكتاب حين يكون الواحد منهم لا يشغل منصبًا قياديًا وبعيدًا عن مراكز صنع القرار يحلو له كثيرًا التشدق بالحرية والديمقراطية، ويداوم على توجيه سهام النقد لكل من يتبوأ منصبًا، وحين يجود عليه الدهر بمنصب قيادى ويستحوذ على رضا السلطة الحاكمة، ويسكن حضنها الدافئ، ويحتل أحد المناصب العليا فى الدولة، ينقلب حاله من معارض شرس للسلطة الحاكمة إلى عدو للناس، مناهضًا لمطالبهم المشروعة، وحقوقهم المستحقة، ولا يرى حقًا أو حرية للمواطن فى شيء، وإنما الحق كل الحق للحاكم فى أن يقول ويفعل ما يشاء فى من يشاء.
والقول إن سيادة العقل فى الحضارة الغربية قد أدت إلى طغيان النزعات المادية، وتصدع الجوانب الروحية. إن مثل هذا القول يحمل فى طياته رفضًا لقيمة العقل، ويستند هذا الرفض إلى الزعم بأننا إذا شرعنا فى إعلاء شأن العقل سنصل إلى ما وصلت إليه بعض المجتمعات الأوروبية من انحلال وتفسخ وانهيار أخلاقى. ودحضًا لمثل هذا الزعم نقول «إن قيمنا الدينية وتقاليدنا الشرقية كفيلة بحمايتنا من هذا الخطر، وإذا كانت الحضارة الغربية قد أخفقت فى تحقيق التوازن بين العقل والروح، وقامت بتغليب العقل وحده وأهملت الجوانب الروحية، فصارت حضارة عرجاء - إن صح هذا التعبير - فهذا لا يستلزم بالضرورة تحقير العقل واستبعاده، وإلا وقعنا فى خطأ تغليب أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر، وسرنا فى طريقنا - نحن أيضًا - بخطوات عرجاء، وإن اختلف موضع العرج، إن مهمتنا الأسـاسية تتمثل فى تحقيق التوازن الذى فشلت فى تحقيقه الحضارة الغربية.
ولن يتحقق هذا التوازن إلا فى ظل الحرية، والحرية تعنى إتاحة الفرصة كاملة للتعبير عن كل مكنونات الفكر وخلجات النفس. ففى غياب العقل يغيب الفكر، وفى غياب الحرية يختنق الفن والفكر والإنسان جميعًا.