في المنطقة، يختلط الأحياء بالأموات، فبجوار موتى يرقدون تحت أقبية حجرية ضخمة، هناك آلاف من الأرواح تعشش فوق المقابر؛ حيث تكتظ المنطقة بمواطنين يعيشون داخل جحور يطلقون عليها مجازًا "بيوت".
تتداخل المشاعر والأحاسيس، وأنت تتجول
في المنطقة، فبينما ترصدك عيون القاطنين وهم يخرجون من أفواه المقابر، بأريحية تنهش
مشاعرك ويتجمد معها إحساسك بالحياة.
ضيق المكان، وشعور الناس بالغربة والوحدة، كان له الأثر في عزلتهم، إذ نادرًا ما يتحدث إليك أحدهم، وغالبًا لا تجده مرحبًا بوجودك أصلًا، فالمشاعر ميتة، والوجوه كئيبة، والفقر يغلب على المكان، ترقبك رائحة الموت أينما ذهبت.. مرحبًا بك في "مدينة الموتى والأحياء".
أصل المنطقة
تعاقب على المنطقة أسماء عدة: "صحراء
المماليك – القرافة – المجمعات المملوكية"، وبحسب الدكتور محمد على أستاذ الآثار
الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، فإن اسم القرافة هو الأقدم، إذ يعود إلى قبيلة
بنو قرافة العربية والتي سكنّت المنطقة إبان الفتح العربي، ولم تكن المنطقة أبدًا جبانة،
أو اتخذها أمراء المماليك مدافن لهم.
ويضيف، في عهد محمد علي حدث تحّول بالمنطقة،
إذ بدأ بعض أمراء الأسرة المالكة في بناء مدافنهم هناك، ثم أقبل بعض الشخصيات المصرية
والبكوات بعد ذلك في بناء مدافنهم في المنطقة، واتجه بعض المصريين لبناء مدافنهم حول
هذه الأضرحة ومقابر البكوات والبشوات.
رغم أن المنطقة تحوي مجموعات كاملة من
الآثار، إلا أن وزارة الآثار سجلت فقط 63 أثرًا.
تقع منطقة صحراء المماليك بشرق القاهرة،
تحت سفح جبل المقطم، واختارها المماليك الجراكسة لتكون حاضنة لآثارهم ومساجدهم، وذلك
بعد التضخم السكاني للقاهرة القديمة خلال العصور التي سبقتهم. يتراوح عمر المنطقة بين
600 – 700 عامًا، وهي منطقة نادرة من حيث احتواءها على هذا الكم الهائل من الآثار الإسلامية،
والتي تتنوع بشكل كبير.
تحتوي صحراء المماليك حاليًا على مجموعة ضخمة من المساجد الأثرية النادرة التي قلما يجمعها مكان واحد، إذ يتجاوز أعداد مساجدها الـ 30، معظمها من الطراز الضخم، أشهرها "قايتباي – برسباي – المسجد الكبير – مسجد قرقماس – مسجد ابن برقوق – مسجد وقبة الأمام الشافعي".
التعديات
تنهش حرم الآثار
أتلفت القمامة جدران مسجد قايتباي، بالإضافة
إلى سرقة بعض أجزاء من قبته ومنبره قبل عدة أشهر؛ كما تهدمت وانهارت بشكل كامل وكالة
قايتباي، وهي كانت من أضخم البنايات المملوكية وأهمها.
"مسجد قايتباي"
بناء ضخم، بديع النقوش، يزين العملة الورقية فئة الجنيه بقبته الضخمة، ونقوشه التي تتباين
بين الخطوط الهندسية والنباتية المطعمة بالخط الكوفي.
ليس هذا فقط؛ ولكن استغل أهالي المنطقة
وما جاورها الفوضى التي تعرضت لها بعد الثورة، وتعدوا على كل المنطقة تقريبًا، حتى
أصبحت المباني السكنية تخنق الآثار وتفرض عليها حراسة مميتة مقيتة.
كما فرضت عشوائية المكان، تباينًا فجًا
في السكان، مما خلق مجتمع مهمشًا، تنتشر به كل السلوكيات السيئة والقذرة، من أعمال
السرقة إلى البلطجة، وهذا أدي إلى المزيد من التعقيدات بالمنطقة، إذ انتشرت التعديات
سواء بالبناء بالمخالفة للقانون أو إلقاء القمامة داخل المناطق الأثرية، وأحيانا يتجاوز
الأمر لهدم أجزاء من بعضها.
ورغم أن قرار وزير الآثار رقم 90 حدد اشتراطات
البناء داخل المناطق الأثرية، بحيث يتم الحفاظ على الشكل والنسق الحضاري للمبنى الأثري،
بالإضافة إلى تحجيم ارتفاعات المباني، بحيث لا يتجاوز ارتفاع المبنى الأثري.
كما حدد القرار حرم المبنى الأثري، الذي
يبدأ من متر وحتى 10 أمتار؛ هذا فيما رصدت وزارة الآثار نحو 347 حالة تعد بمحافظة
القاهرة، فشلت شرطة الآثار في التعامل معها، ولا تزال هذه المخالفات والتعديات حتى
الآن.
ويشير محمد على، أستاذ الآثار، إلى أن حرم
الأثر في الصحراء والأماكن غير المسكونة، يكون أكبر بكثير، لافتًا إلى ضرورة تنفيذ
القرار، فضلًا عن تحديد المادة 20 من قانون الآثار، عدم منح رخص للبناء في المواقع
الأثرية، أو إقامة مدافن، إلا أن الواقع أكثر فداحة وقسوة؛ حيث تم إنشاء مبانٍ سكنية
تتجاوز طوابقها الـ 6 أو 7، إضافة إلى انتهاك حرم المبنى الأثري من قبّل أهالي المنطقة.
ومع مخالفة هؤلاء الأهالي للقانون والقرارات
الوزارية؛ لكن مع ذلك يتم توصيل المرافق لهم سواء "كهرباء – مياه – شبكات الصرف
الصحي"، وذلك بالتحايل على القانون من خلال شهادات "الصلاحية للمباني المخالفة"
التي تصدرها الأحياء، مع أن القانون حدد ضرورة أخذ رأي وزارة الآثار في إصدار شهادات
صلاحيات المباني داخل المواقع الأثرية.
آثار مع
إيقاف التنفيذ
على بعد أمتار قليلة من إدارة الآثار بمنطقة
جبانة المماليك، ترقد أكوام من الزلط والرمل وبعض شكائر الأسمنت بجوار مسجد برسباي،
وهو ذو قبة ضخمة تنتمي إلى الطراز الإسلامي المملوكي، وعلى بعد أمتار منه، ينتظر مسجد
السلطان فرج بن برقوق استكمال أعمال الترميم التي توقفت بسبب قلة التمويل.
ورغم أن المنطقة مدججة بالآثار، إلا أنها
خرجت من خريطة المزارات السياحية لمنطقة القاهرة، مما تسبب في توقف كل أعمال الصيانة
والترميم منذ زمن طويل، حيث أن توقف حركة السياحة وضعف ميزانية وزارة الآثار كانتا
عائقًا أمام تنفيذ أي مشروعات ترميم بالمنطقة.
من جهته، استنكر أمين اتحاد الأثريين العرب
الدكتور محمد الكحلاوي إخراج المنطقة من المزارات السياحية لمنطقة القاهرة، لافتًا
إلى ضرورة ترميم المنطقة، وأنه كانت توجد بعثة بولندية تعمل على ترميم المنطقة منذ
بضعة سنوات.
وعن أهمية منطقة صحراء المماليك، يقول
الدكتور محمد الكحلاوي: إن المنطقة تعود إلى العصر المملوكي الثاني "ممالك الجراكسة"
ويطُلق عليها "مدينة المجمعات الكاملة"، وذلك لأنها تحتوي على منشآت متعددة
الوظائف، إذ يوجد بها المدرسة والتكية والسبيل والمسجد والضريح والوكالة والمصلى والقبة.
ويضيف الكحلاوي، بأن الدولة والعامة يشتركان
في الاعتداء على الآثار وعدم الاهتمام به، مشيرًا إلى تهدد التراث الحضاري بالمنطقة
بالخطر وانهيار بعض أجزاء من الآثار نتيجة الإهمال والتردي.
ويكشف الكحلاوي عن تقديم اتحاد الأثريين
العرب مشروع لإعادة ترميم وصيانة المنطقة، أثناء ترأس زاهي حواس لوزارة الآثار، إلا
أنه لم يجد المشروع صدى من الوزارة، وتُركت المنطقة للإهمال.
ويتضمن مشروع إعادة إحياء المنطقة، تحديد
المنطقة الأثرية، وإخراج الأهالي من المنطقة وتوفير مساكن لهم في مناطق أخرى، وإعادة
ترميم المساجد والآثار، بمقاييس عالية الجودة، نظرًا لما تحتويه على آثار نادرة.
وحول آلية تمويل المشروع، يوضح أمين عام
اتحاد الأثريين العرب، أنه على وزارة الآثار تحمل تكاليف إعادة هذه المنطقة إلى الحياة.
وحول عدم وجود تمويلات بوزارة الآثار تخصص
للصيانة والترميم، يوضح الكحلاوي، أن وزارة الآثار لا تعتمد على المنح الخارجية فقط،
ولكنها تبحث مع المهتمين بالآثار سواء من خلال المنظمات الأجنبية أو المهتمين بالحضارة
والتراث، بالإضافة إلى التمويلات التي توفرها وزارة الآثار، والتي غالبًا ما تكون من
موازنة السياحة.
المياه
الجوفية تغرق الآثار
تشير دراسة للدكتورة هند مشرف عبدالمنعم
حول الأخطار الجيومورفولجية للمياه الجوفية بمحافظة القاهرة صادرة خلال العام الماضي،
إلى ارتفاع مناسيب المياه الجوفية خاصة في مناطق عين الصيرة وعين الخيالة بشرق القاهرة.
وتسبب ذلك في ظهور الرشح وظهور رواكد وبرك
في مناطق القاهرة، وتأثر جبانات المماليك بشرق القاهرة، بالإضافة إلى تسبب هذه في ظهور
انهيارات وتصدع للمباني السكنية والأثرية بالقاهرة، وفقا للدراسة.
كما تكشف ورقة بحثية صادرة عن المؤتمر الدولي الـ13 للطوب والبناء، الذي عُقد في أمستردام في يوليو 2004، أن ارتفاع المياه الجوفية هو السبب الرئيسي في تدهور حال المباني التاريخية في القاهرة، واصفةً ذلك بـ "الظاهرة الأكثر شيوعًا".
وتُوضح الورقة، أن مباني جبانة المماليك
بُنيت في وقت كان مستوى المياه الجوفية أقل بكثير، وكذلك مستوى ارتفاع الشارع، لافتةً
إلى المياه الجوفية غمرت الكثير من الطوابق السفلية والأرضية للآثار.
وتتابع، أنه لما ترتفع المياه الجوفية،
فإنها تترسب على الجدران الحجرية، وتمتص الجدران هذه الأملاح، وبطبيعة الحال، مياه
الصرف الصحي هي الأكثر خطورة، لأنها تأتي مع البكتيريا والفطريات والمواد الكيميائية
مثل الكلوريدات والكبريتات والنترات.
وتسبب ارتفاع مستوى الغبار وأدخنة المصانع في القاهرة بمستويات كبيرة في تدهور الآثار، نظرًا لاحتوائها على عدد كبير من المعادن الثقيلة القادمة من المصانع القريبة، وفقًا للورقة البحثية، موضحةً أن الغبار تسبب في تغيير العديد من ألوان البنايات إلى "رمادي"، رغم أن لونها الأصلي يكون "كريمي" أو أبيض بالحجر "الأبلق".
وتلفت الورقة البحثية إلى أنه في بعض الحالات
يكون من الصعب تحديد الخطوط بالآثار بسبب كمية الغبار التي تغطي السطح، مشيرةً إلى
تأثير ثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت على المباني التاريخية،
وتتسبب العوادم في تغيير ألوان الأسطح.
عفوًا..
لا توجد لدينا أموال
أحد أكثر المشاكل التي تواجه الآثار بمنطقة
جبانة المماليك، هو نقص التمويل، بحسب الورقة البحثية الصادرة عن المؤتمر الدولي للطوب
والبناء، فعلى الرغم من تقديم الحكومة تمويلًا لبعض مشاريع الترميم، لكن ذلك ليس كافيًا.
بحسب الورقة البحثية، فإن "الأولويات
ومحدودية الموارد هما السببان الرئيسيان لإهمال بعض المباني". ومن المُفترض أن
يتم الحفاظ على مُعظم المباني التاريخية وفقًا لـ"الوقفية" الخاصة بكل مبنى،
ولكن في حالات كثيرة تكون وزارة الأوقاف التي تمتلك 90% من الآثار، بطيئة جدًا في توفير
التمويل.
وفقًا للمادة 30 من قانون الآثار، فإن
وزارة الأوقاف هي الموَّكَلة بدفع فواتير ترميم وصيانة المساجد الأثرية، وهذا ليس عبئًا
يقع على عاتق الوزارة؛ ولكن لأن أمراء المماليك كلهم بلا استثناء أوُقَفّوا على مساجدهم
وأضرحتهم "مشروعات ضخمة" سواء كانت أراضي زراعية أو أحياء سكنية بكاملها،
للصرف على المسجد، حسبما يقول الدكتور محمد على أستاذ الآثار بجامعة القاهرة.
ويُضيف: أنه من أول الزيت الذي يُستخدم
في إنارة قناديل المسجد، وحتى الصرف على المصلين في الخانقاه"، لافتًا إلى أن
كل هذه الأوقاف آلت مسئوليتها إلى وزارة الأوقاف بعد ثورة يوليو.
ويشير إبراهيم إلى وجود وقفيات بأسماء
السلاطين المماليك مثل "وقفية برسباي – قايتباي وغيرهم"، مضيفًا أن الشريعة
الإسلامية هي التي تحكم عملية الوقف، بالإضافة إلى شريعة الواقف أو وصيته.
كما تشتكي وزارة الآثار من ضعف التمويل،
وعدم وجود ميزانية كافية، إضافة لحدوث سرقات متكررة لبعض الآثار بالمنطقة، إضافة لانتشار
البلطجة والتعديات من قبّل أهالي المنطقة؛ حيث تم سرقة "حجاب مسجد ابن برقوق"
بعد ترميمه، قبل أقل من عامين، والحجاب هو قطعة أثرية مطلية بماء الذهب يحجز بين الرجال
والنساء أثناء الصلاة.
فضلًا عن انخفاض عدد إخصائيي الترميم،
إذ يُقدر عددهم بنحو 3 آلاف و500 عامل ما بين "مُثبت ومتعاقد وعامل نظير أجر،
وهم موزعين على إدارات الترميم بوزارة الآثار في مختلف المحافظات. إضافة إلى ضعف الحافز
لدى العاملين بسبب ضعف الرواتب، حيث تتراوح رواتب العاملين بإدارات الترميم ما بين
1000 جنيه للمُتعاقدين وبين 2000 للموظف المُثبت، وهناك رواتب أقل.
وتعاني وزارة الآثار من ضعف ميزانيتها
والتي بالكاد يتم استخدامها لصرف الرواتب، إذ انخفضت موازنة وزارة الآثار من مليار
و300 مليون جنيه قبل ثورة 2011 إلى 125 مليون جنيه فقط، وبالتالي أضحت الوزارة عبئًا
على موازنة الدولة المثقلة أصلًا بأعباء الديون، حيث تحتاج الوزارة لـ 72 مليون جنيه
شهريًا رواتب للعاملين.
سوء عملية
الترميم
يرى الدكتور حجاجي إبراهيم أستاذ الآثار
بجامعة طنطا، أن بعض الشركات التي تتعاقد معها وزارة الآثار على ترميم الآثار تُبالغ
في تقدير التكلفة المالية للترميم. وعن لجوء وزارة الآثار لشركات لترميم الآثار، يقول
حجاجي، إن بعض الشركات تُرمم الآثار بطريقة خاطئة.
ويُعرف إبراهيم، عملية الترميم، بأنها
عملية علاج للآثار دون أن يفقد أثريته، أو استخدام مادة ضارة على المدى البعيد.
وتتفق الورقة بحثية صادرة عن المؤتمر الدولي
الـ13 للطوب والبناء، الذي عُقد في أمستردام في يوليو 2004، مع كلام دكتور حجاجي، بأن
هناك بعض العمليات الخاطئة في عمليات ترميم الآثار، موضحةً أنه نتيجة لسرعة عملية الترميم
وعدم وجود دراسات علمية والتغاضي عن بعض الجوانب، تحدث عمليات خاطئة، تكاد تدمر الآثر.
وتُشير الورقة البحثية إلى أن استخدام
الخرسانة أو الأسمنت على الحجر الآثري بشكل عام يخلق نتائج غير مرغوب فيها، إذ أن الإسمنت
في الأصل يتكون من سيليكات الألمنيوم وكبريتات الكالسيوم والأملاح القلوية، وأن هذه
المواد الكيميائية تخترق الأحجار مما يؤدي إلى تباين اللون، وتبلور الملح. علاوة على
ذلك، يمكن أن يؤدي استخدام ملاط الإسمنت إلى إنشاء رابطة أقوى من الحجارة نفسها مما
يؤدي إلى كسر الحجر أولًا في حالة الضغوط.
يمكن أن تتفاعل المادتان "أي المونة
والحجر الأسمنتي" بشكل مختلف مع الحرارة والرطوبة مما يؤدي إلى توسع أو تقلص غير
متوازن، وتتسبب في تآكل حوائط المباني التاريخية، فضلًا عن استخدام الصلب قد يسبب الضغط
بدلًا محاولة المساعدة، خاصة عند التآكل، بحسب الورقة البحثية.
وتُوضح الورقة البحثية، أن استخدام الطلاء
للآثار يتسبب في غلق مسام الأسطح الحجرية التي تسمح للحجارة بالتنفس وإخراج الرطوبة،
مضيفةً أنه لا يجب استخدام تقنية إصلاح واحدة لجميع الهياكل الأثرية.