رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

30 يونيو وآفة النسيان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعضنا ومع مرور الأيام يتعرض - للأسف - للإصابة بعرض أو مرض يسمى ذاكرة السمكة أو ذاكرة الذباب. فمع مرور الزمن واستقرار الأمور تبدأ فجأة أعراض هذه المرض، وأتعجب من هؤلاء الذين ظهرت عليهم بلا مبرر سمات المعارضة الافتراضية الجديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعى، لاكتساب شرعية وجود زائفة بكلمات وجمل تائهة مرتبكة فى العالم الافتراضى لإرضاء نفس مصابة بداء الرفض الدائم.. من منطلق أنا أرفض إذن أنا موجود.. أو جئت هذه الدنيا لكى أعترض - كما قال الأديب الروسى مكسيم جوركى.
أقول ذلك.. بمناسبة جنوح بعض الأصدقاء فى الرفض والسخرية والاستهزاء - أحيانا- من كل ما تم من إنجاز عقب ثورة ٣٠ يونيو، التى يحتفل الشعب المصرى بذكراها السادسة هذه الأيام، والتى أثبت فيها هذا الشعب مدى وعيه ويقظته وخوفه على وطنه من الضياع والاختطاف؛ ويبدو أن علينا أن نتذكر طوال الوقت ونذكر الأصدقاء كيف كنا قبل ٣٠ يونيو، وكيف أصبحنا بعدها.
نعود للوراء سنوات طويلة لأكثر من ثمانية وعشرين عاما، وتحديدا فى ديسمبر ١٩٩١، عندما وقف على بلحاج وسط آلاف من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ فى الجزائر، عقب الفوز بالانتخابات البرلمانية، صارخًا: «هذا يوم عُرس الديمقراطية ومأتمها، عرسٌ لأننا وصلنا إلى الحكم بالانتخابات، ومأتم لأن الديمقراطية نظام كافر لا علاقة له بالإسلام، ويوم نتسلَّم الحكم سنلغيها ونُقيم الحاكمية الإلهية.. جئنا بالديمقراطية لكى نقول لها باى باى»... لم تكن الرسالة مجازيّةً أو هلوسة فى نشوة الفوز، فسرعان ما حمل رجاله السلاح لتأمين مشروعهم وتنفيذ المُخطّط، وبسبب تسارع إيقاع العنف؛ اضطُرّ الجيش لإلغاء نتائج الانتخابات، وإعلان الطوارئ فى فبراير التالى، ثم مُحاكمة «بلحاج» وزعيم الجبهة عباس مدنى خلال يوليو، لتبدأ العشرية السوداء التى أراق فيها الإسلاميون دماء ١٠٠ ألف جزائرى - سبق وتحدثنا عنها فى مقال سابق فى مارس ٢٠١٩، بعنوان «الجزائر... إلى أين؟».
كان هذا السيناريو الأسود مُرشّحًا للتكرار فى المشهد المصرى. فرغم تماسك المجتمع وصلابة المؤسَّسات، ومعاناتنا بقدرٍ أقل من أزمات الميليشيات المُسلَّحة، كانت جماعة الإخوان أكثر مَيلًا إلى رؤية فرعها الجزائرى، والنظر للديمقراطية باعتبارها مطيّةً مرحليّة، وأداةً تنتهى فائدتها بالتمكين، ورغم أنها كانت أكثر تحفُّظًا فى التصريح بنواياها المُضمرة، على عكس خطاب «بلحاج» الفجّ؛ فإن ممارساتها لم تبتعد عنه كثيرًا، وكلّ ما فى الأمر أنها اعتمدت مَسلكًا مُغايرًا لتحقيقها، وإحكام الخناق حول عنق الدولة.
بدا واضحًا منذ اللحظة الأولى لأحداث ٢٥ يناير، أن «الإخوان» تضع عينها على السلطة، ولا يتجاوز الشارع فى نظرها كونه أداةَ ضغطٍ على المؤسَّسات الصلبة؛ لإنجاز المُخطّط والوصول إلى تلك الغاية. غابت عن بداية الاحتجاجات، ثمّ التحقت بها متأخّرًا، وركبتها، وسارعت بالتفاوض مع نظام مبارك. تقاربت مع القوى السياسية لتتلاعب بها، وأعلنت ابتعادها عن المنافسة على الرئاسة، بينما كانت تُجهّز مُرشّحًا وبديلًا احتياطيًّا. واكتملت لها المرحلة الأولى بالسيطرة على غرفتى البرلمان، والجمعية التأسيسية للدستور، والوصول إلى قصر الاتحادية راكبةً ظهور القوى المدنية، بعد عملية ابتزازٍ وتصعيد واسعة المدى!
تصوَّرت الجماعة أن حلم التمكين، المُسيطر عليها منذ ولادتها فى ١٩٢٨، قد تحقّق، أو اكتملت الأُسس القاعدية الكافية لإطلاقه والمُجاهرة به، فقبضت على الحكومة والمؤسَّسات التنفيذية، واستبدلت رجالها بالمُحافظين من التيارات الأخرى، وأعدّت إعلانًا دستوريًّا يُمكّنها من حصار الشارع، وتقويض المؤسَّسات الصلبة والناعمة، طمعًا فى إعادة هيكلة البنية السياسية والتنفيذية بما يتوافق مع تطلُّعاتها، ويضمن لها إقامة لا نهائية فى السلطة!
أخطر ما فعلته الجماعة أنها قرّرت هندسة هرم السلطة خارج البنية المؤسَّسية. فى الوجه الظاهر بدا أنها تصالحت مع هياكل دولة يوليو، لكن فى العُمق أعادت تحرير العلاقات؛ لتضع جسدها بكامله فى سياق المعادلة. لم تكن الجماعة الطامعة لتصبر حتى تخترق المؤسَّسات من داخلها، وهو ما يحتاج عقدين أو أكثر، ويُحتمل فشله مع بعض الأبنية الصلبة، فشقّت طريقا فرعيا يربط الاتحادية بالمُقطّم، ليحلّ المُرشد ومكتبه رأسًا أولى للسلطة، ويتراجع منصب الرئيس إلى حدود السكرتارية أو ساعى البريد فى نظام أقرب ما يكون للنموذج الإيرانى.
فضلًا عن الصيغة المشوهة، وما تنطوى عليه من مُثيرات الصدام مع بنية السلطة، كان الوضع فاضحًا ومُهينًا لدولة مركزية مثل مصر، إلى جانب ما فيه من ثغراتٍ مُرعبة، فى ضوء نفاذ الجماعة لأوراق المؤسَّسات وأسرارها، وقدرتها على توظيفها أو تسريبها دون أية مسئولية أو مُساءلة. كان ذلك بمثابة منح مزايا كاملة للتنظيم، لا تُقابلها أعباء أو التزامات، ليكون هذا اللاعب الخفىّ فجوةً فى بنية الأمن القومى، يسهل توظيفها لاحقًا لابتلاع الهيكل الإدارى والتنفيذى والأمنى للبلد بكامله!
اكتمال المُخطّط كان يعنى مصادرة الدولة لصالح الإخوان. فمع نجاحها فى اختراق المؤسَّسات والتغلغل داخلها، ستظل الجماعة مُحتفظةً برأسين للسلطة: الرئيس الذى يمكن تبديله أو تغييره أو مساومة القوى الأخرى به مستقبلًا، ومكتب الإرشاد الذى سيظلّ رأسًا دائمًا يتّصل مُباشرةً بأذرعه داخل أوعية السلطة، ما يعنى استحالة نزع التنظيم من بنية الهياكل المؤسَّسية، حتى لو خسر الرئاسة. بينما على الجانب المقابل، بدت التيارات السياسية عاجزةً تمامًا عن إدارة اللعبة، فى ظلّ انكشاف الجماعة العميق على أفكارها ورؤاها، واختراقها لكثيرٍ منها، أو السيطرة على قطاع من قادتها بالإغراءات، أو بما وفَّرته سنوات التحالف القديمة من معلوماتٍ وأدوات ابتزاز. وفى ظلّ تسيُّد تلك المعادلة، لم يكن هناك بديل عملىّ إلا أن يستعيد الشارع زمام المبادرة.
كان الشارع جاهزًا للغليان جرَّاء مُمارسات الجماعة وانفلاتها، وهو ما احتاج مبادرة بسيطة من شباب الصفين الثانى والثالث؛ لتوظيف تلك الطاقة. هكذا كانت حركة «تمرُّد» مسارًا مُهمًّا لتنظيم فائض الغضب، بعيدًا عن رؤوس القوى السياسية. اضطلعت الحركة بترتيب الصفوف، وتمرير السخونة إلى واجهة المشهد، رهانًا على اتّساع الحشد، وانضواء الأحزاب ضمن تلك الموجة، ثمّ مُساندة المؤسَّسات الوطنية، على الأقل بالحماية من بطش الإخوان وميليشياتهم، بعد بروفات قمعٍ سابقة فى الاتحادية والمقطم ومحافظات عدّة. وكان أهم ما فى تلك الصيغة أنها بلا رأسٍ يُمكن أن تُغريه الجماعة، أو تحاصره، أو تُطلق ماكيناتها لتشويهه.
فوجئ الإخوان بنزول قرابة ٢٧ مليونًا، يُمثّلون ٣٠٪ من السكان، وباستبعاد حوالى ١٠٪ من المُسنّين، وما لا يقل عن ٤٠٪ من الريفيِّين والبدو ومجتمعات الصعيد، ممّن يصعب عليهم التظاهر والاحتجاج، وبالنظر إلى فوز محمد مرسى بـ١٣ مليونًا فقط، كانت ثورة ٣٠ يونيو موجةً وطنيةً كاسحة، وخيار الضرورة لتقويض مشروع الجماعة غير الوطنى، قبل اكتماله وابتلاع المؤسَّسات.
لم تُنقذ ٣٠ يونيو الدولة أو تعصمنا من العشرية الجزائرية السوداء فقط، وإنما فتحت بابًا واسعًا لحصار اليمين الدينى، ولَجْم تطلُّعاته فى المنطقة، سواء الجبهات الساخنة باليمن وسوريا وليبيا، أو الساحات الهادئة كالأردن والإمارات والسعودية والمغرب، ما يعنى أنها كانت خطوة أولى، وطاقة دافعة، لتخليص الإقليم من شرور الإسلام السياسى، أو تقليم أظافر تنظيماته على الأقل، وبينما تأهّب الإخوان لتنفيذ سيناريو جبهة الإنقاذ الجزائرية وتلبُّس وجوه إرهابيِّيها، كانت ملايين ٣٠ يونيو تجهض تلك المخططات، قبل أن تُراق دماء آلاف آخرين على امتداد دول المنطقة.
السيناريو نفسه كان يراد لهذا البلد لولا أن الله سخر له رجالا يحبونه ويسهرون على حمايته، فكانت قرارات حماية الشعب وثورته فى ٣٠ يونيو، كما كانت الوقفة الصلبة وتلاحم الجيش والشعب بكل فئاته فى وجه المؤامرات الغربية التى تلت ٣ يوليو، وعزل مندوب الإخوان والمخابرات الأمريكية فى قصر الرئاسة، فتكسرت كل الضربات الاقتصادية والسياسية والمؤامرات التخريبية على صخرة هذا التلاحم بين الشعب وقواته المسلحة، وبدأت قطاعات واسعة من الجماهير تدرك خبايا وأسرار الحروب الذكية والحروب المعلوماتية وحروب السوشيال ميديا واستخدام الشخصيات العامة والفنانين والإعلاميين فى تشويه النظام والإنجازات.
حفظ الله مصر وشعبها وجيشها.