يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيمًا قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة، وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية التى أشرقت مع شمس الدنيا من «مصر» كفجر للضمير الإنسانى، وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه - مفروضًا علينا - يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراع علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا فى أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا - دائمًا - كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عام من الأخلاق...
الواقع - الآن - فى عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدار التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
فتح الشام
نستهل بفتح الشام وضمها إلى مصر كما كانت تلك رغبة جموع المصريين من محمد على والى مصر المحروسة، عندما لجأ يوسف كنج باشا والى الشام إلى مصر فى 1810، هربًا من سليمان باشا والى صيدا، فاعتبر محمد على باشا هذا الحادث فرصة للتدخل فى الشام، فقام بالسعى لدى السلطان العثمانى لإعادة يوسف كنج باشا لحكم الشام، بعد أن شرط على الأخير أن يكون معينًا له فى مد سيطرته على سوريا. وقد صرح محمد على باشا فى أكثر من مناسبة أنه يرغب فى تولية ابنه طوسون باشا على عكا. وقد كانت مخاوف سليمان باشا والدول الأوروبية من امتداد زحف الجيش المصرى الذى غزا الجزيرة العربية نحو سوريا، إلا أن خوف محمد على من مقاومة الأتراك لحملته، وعدم رضا السوريين عن حكمه، وتعارض مصالحه مع مصالح الدول الأوروبية، كل هذه الأسباب أجبرت محمد على، على تأجيل حملته حتى عام 1831، وذلك بعد أن زالت الأسباب التى كانت تمنعه من تنفيذ مشروعه، فقد انشغل الأتراك بثورة البوسنة، واضطرابات ألبانيا، وكانت سوريا خالية من القوات العسكرية، لعدة أسباب، أولها انشغال معظم القوات فى القضاء على والى بغداد المتمرد (داود باشا)، وبسبب ثورة دمشق ضد واليها سليم باشا، وأخيرًا بسبب اضطرابات صيدا. بينما انشغلت الدول الأوروبية فى تسكين الاضطرابات والثورات التى نشأت من تأثير الثورة الفرنسية، أما من جهة أهل سوريا فقد أمّن محمد على باشا حاكم جبل لبنان لطرفه مع سكان جبل لبنان، والمسيحيين عامة، لأن المسيحيين فى سوريا عرفوا بمعاملة محمد على باشا الحسنى للأقباط فى مصر ومناداته بالحرية والمساواة، أما باقى السكان فقد اعتمد محمد على باشا على تأييدهم له بسبب كرههم للأتراك، ولحكمهم السيئ، وبسبب كرههم للإقطاع والأغوات الذين تسلطوا على الشعب، وقام محمد على باشا تمهيدًا لغزو سوريا بإعلان مشروع قيام الدولة العربية، وأيده فى هذه الدعوة ابنه إبراهيم باشا تأييدًا مطلقًا، وفى 1822 هرب إلى مصر الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان، الذى ساند عبدالله باشا حاكم صيدا بسبب نزاعه مع درويش باشا والى الشام، فصدر أمر من السلطان العثمانى بعزل عبدالله باشا والأمير بشير، إلا أن عبدالله باشا تمرد على هذا الأمر، مما اضطر السلطان محمود لإصدار أمر إلى درويش باشا والى الشام ومصطفى باشا وزير حلب بالزحف على عكا لإخضاع عبدالله باشا، لقد رأى محمد على باشا هذه فرصة عظيمة فى سبيل تنفيذ مشروعه، فكاشف الأمير بشير بمرامه بعد أن أكرمه وأجاره، وقام بالسعى لدى الباب العالى لإصدار عفو عن الأمير بشير وعبدالله، وفعلًا نجح وعاد عبدالله باشا حاكمًا لعكا، وفى عام 1825 وقعت الفتنة بين الأمير بشير حاكم الجبل والشيخ بشير جنبلاط كبير مشايخ الدروز، ووصلت أنباء الفتنة إلى محمد على باشا، الذى طلب من عبدالله باشا أن يتدخل لإنجاد الأمير بشير، فقام عبدالله باشا بإنجاده، وتم النصر للأمير بشير، فألقى القبض على الشيخ بشير وقاده إلى عكا سجينًا عنده وهناك أحسن وفادته، إلا أن محمد على باشا والأمير بشير طلبا من عبدالله باشا التخلص من الشيخ بشير، ونظرًا لإلحاحهما عليه بذلك، قام عبدالله بقتل الشيخ بشير، وبذلك قوى نفوذ الأمير بشير شهاب، وفى نفس الوقت ازدادت روابط تبعيته لمصر، بينما زادت أحقاد الدروز على الأمير بشير ومحمد على باشا، أدرك عبدالله باشا أطماع محمد على باشا فى سوريا، وأدرك خطورة هذا وتعارضه مع أطماعه الخاصة ومركزه، لذلك كان من المعارضين لسياسة محمد على باشا رغم ممالاءته له، وقد فشل محمد على باشا فى ضمه تحت جناحيه رغم مساعدته له عند الضيق، واستغل السلطان محمود هذه الناحية وقام بمحاولة إسقاط حكومة محمد على باشا بأن دفع لطيف باشا للتآمر على خلع محمد على باشا، وحاول أيضًا بذر بذور الفتنة بين محمد على باشا وابنه إبراهيم باشا، بأن أنعم على إبراهيم باشا بولاية جده، ولقّبه شيخ الحرم المكى الذى يجعله مقدمًا على والده فى المقامات الرسمية، إلا أن الأسباب الرئيسية للخلاف بين عبدالله ومحمد على باشا يمكن حصرها فيما يلي:
1 ـ رفض عبدالله باشا إعادة الفلاحين المصريين الهاربين إلى سوريا من التجنيد بحجة أن سوريا ومصر تابعة للسلطان، والسكان فى كلا البلدين من رعاياه ولهم حق الإقامة فى أى مكان يختارونه.
2 ـ رفض عبدالله باشا تسديد دينه الذى دفعه محمد على باشا عنه للسلطان العثمانى كشرط لعودة عبدالله باشا لولاية صيدا.
3 ـ منع عبدالله تصدير بزر دود الحرير من لبنان إضرارًا بمحمد علي، الذى كان يعتمد عليه فى صناعة الأقمشة الحريرية.
4 ـ قيام عبدالله باشا بتشجيع التهريب فى مصر إضرارًا باقتصاد حكومة محمد على باشا.
تلك الأسباب جعلت محمد على باشا يقدم على غزو سوريا، واضعًا ستارًا شرعيًا أمام السلطان العثمانى وهو تأديب عبدالله باشا، الذى كثر تمرده على السلطان العثماني، ومحاولاته الاستقلال عن السلطنة. ولم يكن ستار الشرعية هذا ليخدع السلطان العثمانى الذى أدرك أهداف محمد علي. بدأت حملة محمد على، على سوريا بتوجيهه ابنه إبراهيم باشا مع ثلاثين ألف رجل وأربعين مدفعًا ميدانيًا أخرى من مدافع الحصار، تساندهم قوة بحرية قوامها ثلاث وعشرون سفينة حربية وسبع عشرة سفينة نقل، بقيادة أمير البحر عثمان نور الدين بك. وسنوالى تباعًا إن شاء الله تفاصيل معارك ضم الشام.