الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

تجديد الفكر الديني في عصر العلم والتكنولوجيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كان عصرنا هو عصر العلم؛ فإن هذا لا يعنى على الإطلاق أنه لم يعد للدين مكان فى عالَم اليوم، بل الأقرب إلى الصواب هو التأكيد أنه كلما ازدهر العلم، ازدادت حاجتنا إلى الدين. فالعلم لا يستبعد الدين بل يحتاج إليه؛ لأن العلم فى ذاته هو قوة عمياء، أو بتعبير آخر هو قوة محايدة يمكن توظيفها لخدمة البشر، كما يمكن وبالقدر نفسه توجيهها لتدمير العالَم والإنسان. تمامًا كالديناميت فى وسعنا أن نلقى به من الطائرات لتدمير المتاحف والمساجد والكنائس والمدن والمستشفيات، أو نلجأ لاستخدامه فى شق الطرق عبر الجبال لصالح الإنسان. العلم إذًا ليس خيرًا أو شرًا فى ذاته، ومن هنا فهو أحوج ما يكون إلى قيم رفيعة تقوده نحو خير الإنسان ورفاهيته. وفى يقينى أن الدين هو النبع الأصيل لهذه القيم الرفيعة. 
وإذا تأملنا مسار العلم فى الحضارة الغربية، نجد أنه بسبب غلبة النزعة المادية وغياب القيم الدينية الرفيعة، تم استغلال العلم فى صناعة الدمار لا العمار. إذ تم إنفاق الأموال وإهدار الوقت وتكريس الجهد والطاقات لصناعة أسلحة الدمار الشامل التى يطالبون اليوم بالتخلص منها، ولنا أن نتخيل مدى الخير الذى كان سينعم به البشر لو أن كل هذه الأموال والجهود تم استغلالها من أجل البحث عن علاج للأمراض الخطيرة «كالسرطان» و«الإيدز» وغيرهما، أو من أجل استصلاح الأراضى وتحويل مياه البحر إلى مياه صالحة للزراعة والشرب. لماذا لم يحدث هذا، وحدث العكس؟! لغياب القيم الدينية النبيلة الكفيلة بتوجيه دفة العلم نحو خير الإنسان. 
إن هذه الدعوة إلى استرشاد العلم بالقيم الدينية، لا تعنى على الإطلاق النظر إلى الدين والعلم بوصفهما مبحثًا واحدًا، كما يحلو لبعض الدعاة أن يفعل ذلك. إذ يذهب هؤلاء إلى القول إن القرآن الكريم يتضمن نظريات علمية أثبت العلم المعاصر صحتها. هذا القول ينطوى فى - رأيى - على مغالطات دينية وعلمية، إذ إن الربط بين الدين والعلم على هذا النحو يسىء إلى كل منهما؛ لأن من يحاول أن يدلل أو يبرهن على أن بعض النظريات العلمية تلتقى أو تتفق مع بعض الآيات القرآنية؛ فإنه بمحاولته هذه إنما يعلن ضمنًا أن الدين فى حاجة إلى دعم أو سند من خارجه، وفى اعتقادى أن هذه الوجهة من النظر هى أبعد ما تكون عن الصواب؛ لأن الدين نسق متكامل لا يحتاج إلى دعم خارجي، حتى وإن كان مصدر هذا الدعم هو العلم. 
وإذا كان الترويج للفكرة القائلة بوجود علاقة وثيقة بين الدين والعلم يسىء إلى الدين، فإنه يسىء أيضًا إلى العلم؛ لأن ترسيخ هذه الفكرة فى عقول الناس، وبخاصةٍ العلماء منهم، قد يؤدى إلى إعاقة مسيرة التقدم العلمى؛ إذ قد يترتب عليه اضطرار رجل العلم إلى التوقف عن إكمال أبحاثه إذا ما لاح أمام ناظريه، من خلال التجارب التى يقوم بإجرائها، إن النتيجة النهائية التى قد يتوصل إليها سوف تبدو متعارضة مع النص الديني، أما إذا تجاسر واستمر فى أبحاثه، معلنًا نظريته بعد التحقق من صحتها؛ فإنه سوف يُواجَه فى هذه الحالة بأبشع تهمة وهى الكفر والزندقة، والعياذ بالله.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ فإن من يحاول إيجاد رابطة أو علاقة بين أحدث النظريات العلمية وبعض الآيات القرآنية، إنما يفترض ضمنًا الثبات الدائم لصحة النظريات العلمية. وهذا الافتراض يتعارض مع الروح الحقة للمعرفة العلمية. إن أهم خصائص العلم هو التغير وليس الثبات. فالنظريات العلمية التى كنا ننظر إليها على أنها صحيحة منذ سنوات قد أثبت العلم بطلانها، كذلك الأمر بالنسبة للنظريات التى نتعامل معها اليوم على أنها صحيحة قد تكشف الأبحاث المقبلة عدم صحتها.
التطور والتغير هما إذن من أهم سمات العلم، فى حين أن النص الدينى يتصف بالثبات، فماذا يكون التصرف إذا ما ربطنا بين آية قرآنية ونظرية علمية، ثم اكتشفنا بعد فترة من الزمن - عن طريق البحوث العلمية اللاحقة - أن هذه النظرية باطلة؟ هل سوف ينسحب هذا البطلان - لا سمح الله - على الآية الكريمة التى ارتبطت بها؟!
قد يبادر أحد القرَّاء قائلًا: إن أحدًا لا يربط بين الآيات القرآنية والنظريات العلمية المتغيرة، وإنما يتم الربط بين الآيات القرآنية والحقائق العلمية الثابتة.
وليسمح لى هذا القارئ الكريم بأن أهمس فى أذنه قائلًا: لا توجد حقائق ثابتة فى مجال العلم، وإن من يردد هذه الحجة إنما يسعى إلى تبرير ربطه بين بعض الآيات القرآنية وبعض النظريات العلمية التى كان لها من الدعم العلمى حظًا أوفر. ونتيجةً لهذا الدعم يتم النظر إلى هذه النظرية أو تلك بوصفها حقيقة علمية ثابتة. غير أن هذا القول بوجود حقائق علمية ثابتة هو أحد مخلفات الفيزياء الكلاسيكية التى ظلت سائدة حتى أواخر القرن التاسع عشر، لكن مع بداية القرن العشرين تم الكشف عن نظرية النسبية لأينشتين ونظرية ميكانيكا الكم الحديثة (الكوانتم) لبلانك، وأدى هذا الكشف إلى إعادة النظر فى فكرة القوانين الطبيعية. كما أوضح هذا الكشف أن العلم لا يخضع لمبدأ الحتمية. وهكذا تبين للعلماء أن الكون ليس آليًا أو محتومًا على الأقل بالنسبة لبعض الظواهر الفلكية والنووية. بعد هذه الكشوف أصبح من الواضح أن أى إنسان لا يستطيع إغفال مفهوم «الاحتمال» إذا ما أراد أن يفهم بنية العلم.
ومن هنا نعود فنقول: إنه لا وجود لحقائق علمية ثابتة. أو بعبارة أكثر وضوحًا. لا وجود لحقائق علمية تزعم لنفسها الحق فى أنها سوف تظل محتفظة بصحتها إلى الأبد. قد توجد نظريات علمية ثبتت صحتها عن طريق كل الشواهد التى ظهرت حتى الآن، أو ثبتت صحتها عن طريق التدليل على بطلان كل القوانين والنظريات المناقضة أو المنافسة لها. ولكن مهما تعددت الشواهد المؤيدة؛ فإن ظهور حالة أو ملاحظة واحدة تتعارض مع هذه النظرية كفيل بهدم النظرية وتقويضها حتى وإن كانت قد شهدت بصوابها ملايين الشواهد.