ما أكثر الصعوبات التى تواجهنا فى الحياة، فقد «خلق الإنسان فى كبد»، كما جاء فى كتاب الله تعالى، ولكن رغم ما نعانيه أحيانًا من ابتلاءات، نجد أن منح الله أكبر كثيرًا من أى مِحن قد تصيبنا.. ودائمًا نجد فى كل محنة منحة لا نعلمها إلا بعد حين.. فنحن نحصى أوجاعنا، وننسى ونحن نحصيها أنها لا تقارن بنعم الله التى لا تعد ولا تحصى.. ورغم ذلك، قد تصيبنا فى بعض الأوقات لحظات ضيق أو يأس، لا يمكن أن نجتازها بسرعة إلا بتأمل العطايا التى وهبها الله لنا دونًا عن غيرنا، وأيضا باستحضار النماذج الملهمة التى نتعلم من تجاربها أنه لا مجال للإحباط طالما تواجدت الإرادة والصبر والسعى والعمل.
ومن أجمل النماذج التى تمدنا بالتفاؤل والأمل والطاقة الإيجابية، الكاتبة والمفكرة «هيلين كيلر»، التى تمر الذكرى التاسعة والثلاثون بعد المائة لميلادها فى 27 يونيو الجارى، فقد ولدت عام 1880، وكانت الطفلة الأولى لوالديها، وأصرت والدتها على تسميتها بهذا الاسم الذى يعنى النور، رغبة فى أن يكون لها نصيب من هذا الاسم.. ولكن شاء الله أن تصاب الطفلة هيلين- قبل أن تتم عامها الثانى- بمرض أفقدها نور عينيها للأبد، وانتزع منها قدرتها على السمع أيضا.. فعانت الطفلة من قدرتها على التواصل، وأدركت أنها لا تملك ما يملكه الآخرون، وكانت تبدى غضبها الذى لا تملك سواه، وتقوم بتكسير الأشياء من شدة الغضب.. عانى والداها وكانا يتألمان مما لحق بها، ولم يتركا بابا إلا وطرقاه.. وفكرا فى إلحاقها بدار للمعاقين، ولكن لم تستسلم الأم لهذه الفكرة، وظلت تبحث وتقرأ عن تجارب مماثلة لابنتها، حتى تعرف كيف تتعامل معها وتساعدها.. وذهبا بها للعديد من المختصين فى هذه الحالات، ومن ضمنهم جراهام بيل مخترع التليفون، الذى كان يساعد الأطفال الصم فى ذلك الوقت.. وبعد رحلة مضنية من البحث عن العلاج أو الدعم، أخذا بنصيحة أحد مديرى مدرسة للمكفوفين، والذى رشح لهما المعلمة «آن سوليفان» المتخصصة فى هذه الحالات، فأقامت معهم فى المنزل، وبعد رحلة شاقة من المعاناة لكسب ثقة الطفلة هيلين، وإكسابها مهارات التواصل، أصبحت هذه المعلمة هى نقطة النور فى حياة هيلين، وكان لها الفضل بصبرها ودأبها وإتقانها لعملها، فى وصولها لأعلى المستويات العلمية، وقهرها للظلام والصمم.. حيث تعلمت هيلين قراءة الشفاه واللمس، وطريقة برايل، بالإضافة لإجادة عدة لغات أجنبية، وكانت أول امرأة من الصم والبكم تحصل على الليسانس، رغم أنه فى ذلك الوقت كان بمثابة عمل إعجازي، ولكنها بذلك فتحت المجال لكل من أصيبوا بمرضها، وأصبحت أيقونة فى العمل الاجتماعى والفكرى والسياسى.. وقد نشرت ثمانية عشر كتابًا، من أشهرها «العالم الذى أعيش فيه، أغنية الجدار الحجري، الخروج من الظلام، الحب والسلام.. وتمت ترجمة مؤلفاتها إلى خمسين لغة، ونالت العديد من الأوسمة والتكريمات ودرجات الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات.. ومن الجدير بالذكر ما روته فى أحد خطاباتها عن تجربة زيارتها لمصر عام 1952، أثناء الجولة التى قامت بها لدول المنطقة، حيث قالت: «لقد فتنتنى قوة الدين الإسلامى فى المنطقة، خاصة فى مصر التى شعرت بأنها قلب الإسلام، وكنت دائمًا أتمنى رؤية الشعب الذى قاوم بضراوة البريطانيين، وأدهشنى الود والترحيب الذى وجدته من شعبها الذى يتمتع بإرادة قوية، وزرت مراكز ومدارس المكفوفين والصم والبكم، ولكن كان من أهم الأيام فى حياتى هو يوم زيارة الأديب المصرى طه حسين لى عند تواجدى فى القاهرة، فلسنوات عديدة قرأت عنه ولا يمكننى التعبير عن مدى سعادتى لمقابلته هو وزوجته وابنه، بقيت معه ساعة كاملة وكان لى الشرف أن ألمس وجهه، فكم كان وسيمًا ومتحضرًا ومليئًا بالنور الداخلى، وناقشنا العديد من الموضوعات وتحدثنا عن عمله وإنجازاته، وأخبرنى أنه عندما كان وزيرًا للتعليم، عمل بإصرار لتمكين المكفوفين من الذهاب إلى الجامعات والكليات، وقال إن أحد الاحتياجات الرئيسية للطلاب المكفوفين فى مصر هى المدارس الثانوية التى يمكنهم الذهاب إليها لإنهاء تعليمهم فى الكلية، لقد كان فخرًا لى أن أشعر بشخصية طه حسين تدعمنى عندما دعوت وزراء حكومات مختلفة وتوسلتهم أن يعملوا على تواجد تلك المدارس الثانوية فى بلادهم».
لقد عاشت هيلين كيلر تجربة ثرية، مليئة بالعبر والدروس، ليست فقط فى قوة إرادتها ودأبها وإصرارها، ولكن فيمن أحاطوها برعايتهم وفكروا فى طرق ووسائل لمساعدتها بالعلم والصبر، والتجربة دون كلل أو ملل، رغم عدم توافر أى إمكانات فى ذلك الوقت.. فأثبتوا أن العجز ليس فى الحواس، إنما فى الاستسلام واليأس وضعف الإرادة.. فكما قالت هيلين كيلر فى مقولتها الرائعة التى اختزلت بها تجربتها الحياتية الملهمة: «عندما يُغلق باب السعادة، يُفتح آخر، ولكن فى كثير من الأحيان ننظر طويلا إلى الأبواب المغلقة بحيث لا نرى الأبواب التى فُتحت لنا».