وضع المفكر والباحث اللبنانى «على حرب» بصمته الفكرية الجريئة، وهو يصدر مؤلفه الفكرى فى طبعته الثانية لسنة 2012، وذلك بعد الطبعة الأولى لسنة 2011، والمعنون بـ«ثورات القوة الناعمة فى العالم العربي، من المنظومة إلى الشبكة»، وقد قام بهذا العمل التحليلى لظاهرة مركبة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا، وهى «الثورة»، خصوصًا تلك التى عرفتها شعوب الدول العربية غربًا وشرقًا.
ويبرز عنوان هذا المؤلف، ليختزل موضوعه بشكل تركيبي؛ فالثورة الناعمة مصطلح جديد ارتبط تشكله بظهور ثورات الشعوب السلمية، حيث سمة اللاعنف هى الميزة الأساسية التى يختزلها المصطلح. والشق الثانى من العنوان «من المنظومة إلى الشبكة»، يختزل كيفية تحول الأفكار والقيم الوطنية فى ظل تحولات الوسائط البشرية التواصلية الجديدة، فلقد تطرق الكاتب إلى طريقة التحول هذه فى ظل ثورات الربيع العربى التى استطاعت أن تستثمر وسائل التكنولوجيا والتواصل الحديثة لكى تبنى قيمًا جديدة انفكَّت من المنظومات السلطوية التقليدية بما فيها أنظمة الحكم السياسية والدينية والتاريخية، لكى تتحرر فى إطار قيم كونية مترابطة فيما بينها.
ويُشكل موضوع الثورة جوهر هذه الدراسة وكُنهها فى علاقتها بعملية التحديث الفكرى والاجتماعى والسياسى لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكى يتتبع المؤلف مسار هذا التحديث، عَمد إلى تقسيم بحثه إلى قسميْن أساسييْن. يتناول القسم الأول عملية تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات العربية التى عشَّشت فى مؤسسات الدولة والمجتمع المختلفة دون أن تستطيع الرقى بالفرد والمجتمع والدولة. لقد عرَّت ثورات الربيع هشاشة هذه الأنظمة الهجينة عبر عملية السقوط السريعة التى تعرضت لها إبان كسر حاجز الخوف الشعبى ثم استثمار الميادين الافتراضية و«الأتوسترادات» الإعلامية بتعبير الكاتب. والقسم الثانى يتطرق لمراحل الإرهاصات الأولى، لتشكل الديمقراطية فى المجتمعات العربية أو ما يسمى بالانتقال الديمقراطي. وهنا كانت صدمة النخب السياسية والثقافية التقليدية غير القادرة على فهم وتتبع آليات عمل التحولات المجتمعية الحديثة التى أفرزت حركة التحرر داخل شعوب الربيع العربي. لقد تم تجاوز مفاهيم وميكانيزمات الثورات التقليدية من مفاهيم الجماهيرية إلى الشعبية ومن مفهوم القائد البطل إلى الفاعل المدني، ومن مفهوم القوة المسلحة إلى القوة السلمية، ومن مفهوم الطائفية إلى المواطنة التشاركية، إنها ثورات القوة الناعمة بتعبير على حرب.
لقد اعتبر الكاتب هذه الثورات امتدادًا للثورة الفرنسية وعصر النهضة والليبرالية فى الوطن العربي، لأنها ليست ثورات أيديولوجية بل اجتماعية فكرية عفوية، حيث السمة المميزة لها هى ظهور الفاعل الرقمى الذى بدأ يصنع التاريخ ويغير الواقع فيما القوى التقليدية لم تستطع فهم تحول مجريات الأحداث، مما جعلها ترفض العولمة والتواصل الرقمى الجديد. إنها ساهمت فى سقوط أقنعة الأنظمة العربية التقليدية والأيديولوجيات الآفلة والتيارات الأصولية وشعاراتها أمام ثورة العولمة والمعلومة وتحرر الفكر العربي. لذلك، فإن هذه الانتفاضات تعطى مصداقية لفوكوياما وليس لصمويل هنتينجتون، الأول نظر بعين الذاكرة الماضوية الموروثة لحركة الشعوب، فى حين تنبّأ الثانى بانتصار الديمقراطية فى زمن العولمة الليبرالية.
إلا أن القوة الناعمة التى تحدث عنها «على حرب» فى كتابه المهم لم تكن وليدة المنطقة العربية ولا هى مَن وجهتها هذه الوجهة، فقد كان هناك آخرون هم مَن يوجهون هذه القوة الناعمة ويوظفون آلياتها وأدواتها ووسائلها من «إنترنت» و«فيس بوك» و«تويتر»؛ فقد تسلل «جارد كوهين» Jared Cohen قبل اندلاع ثورات الربيع العربى إلى عالمنا العربي. و«جارد كوهين» دبلوماسى أمريكى من أصول يهودية، عُيّن فى العام 2006 رئيسًا لقسم التخطيط السياسى فى وزارة الخارجية الأمريكية، ومديرًا لتحالف المنظمات الشبابية بتوجيه من «كوندوليزا رايس» مستشارة الأمن القومى ووزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك.
وفى المجال العربي، يمكن تسليط الضوء على السيرة العملية لشخصية «كوهين» المحورية، التى لعبت دورًا مهمًّا فى مجال التغلغل الثقافى والسياسى الأمريكى فى عقول الجيل العربى الشاب حيث تظهر تحركاتُه المنهجية الصلةَ الوثيقة، وعامل الارتباط بين شبكات التواصل الاجتماعى والحرب الناعمة على العالَمَيْن العربى والإسلامي، وخصوصًا على محور المقاومة. وقد ألقى «كوهين» فى شهر أكتوبر من العام 2007 محاضرة فى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تحت عنـوان: «النساء والشباب والتغيير فى الشرق الأوسط ومفهوم الديمقراطية الرقمية»، حيث تحدّث فيها حرفيًا عن استراتيجية الدبلوماسية الرقمية قائلًا: «الشباب والنساء فى الشرق الأوسط أصبحوا ناضجين لاستقطاب التأثير الخارجى عبر بوابات التكنولوجيا التى تشمل الفضائيات التليفزيونية والهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي». كما كتب «كوهين» مع أستاذه الدكتور إريك شميدت Eric Schmidt مدير شركة «جوجل» Google كتاب: «العصر الرقمي»، وكتب سابقًا «أطفال الجهاد» Children of Jihad كاشفًا بعضًا من عقيدة التكنولوجيا السياسية Political Technology التى سيطرت على عقول النخبة الأمريكية فى الآونة الأخيرة.
واعتمد «كوهين» على بناء شبكة علاقات مع الناشطين الشباب، وقام بأدوار ميدانية، حيث زار سبعين بلدًا، معظمها فى العالَمَيْن العربى والإسلامي، ووصل فى بعضها إلى المخيمات الفلسطينية فى «عين الحلوة» و«مية ومية» قرب مدينة صيدا (جنوب لبنان). ويحفل موقع «اتّحاد المنظمات الشبابية» الذى يديره «كوهين» بصُوَرٍ فوتوغرافية أُخذت له مع العشرات من الشباب والناشطين الفلسطينيّين والعرب، وهى لا تزال منشورة على صفحات موقع وزارة الخارجية الأمريكية.
وأشرف «كوهين» فى العام 2008 على خطة وضعتها وزارة الخارجية الأمريكية تحت عنوان: «تحالف الحركات الشبابية»، حيث تركّز الخطة على كيفية استخدام المواقع الإلكترونية الاجتماعية مثل «فيس بوك» كأداة لتعزيز التنظيمات والنشاطات الشبابية ضد بعض الأنظمة، من أبرزها نظام الملالى فى إيران. كما شارك «كوهين» فى «مجموعة العمليات الإيرانية - السورية»، التى سُمّيت «إيسوج» ISOG، وهى مجموعةُ عملٍ مشتركةٍ بين هيئات مسئولة عن التخطيط والتنفيذ لأعمال سرّية ضد إيران بهدف تغيير نظام الحكم فيها.
وفى العام 2011، عام الثورات العربية، برز دوره من خلال اتّصالاته التنسيقية مع الناشط المصرى «وائل غنيم» الذى كان يعمل مديرًا لفرع شركة «جوجل» Google فى مصر والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يُعدّ «وائل غنيم» من الذين ألهبوا احتجاجات الثورة المصرية فى 25 يناير من عام 2011 من خلال نشاطه عبر صفحة «كلنا خالد سعيد»، ورسائله وخطاباته التليفزيونية، ومن أوائل الذين نزلوا إلى شوارع القاهرة.
ونستكمل تحولات القوة الناعمة الأمريكية إلى أدواتٍ للصراع فى مقالنا المقبل.