الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عقبات في طريق التفكير السليم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قلة قليلة من الناس هم الذين يستدلون استدلالًا سليمًا، فيكون تفكيرهم فى حل المشكلات واتخاذ القرارات موضوعيًا لا ذاتيًا، واقعيًا لا خياليًا، منطقيًا يخلو من التناقض. فهناك عوائق شتى مختلفة تحول بينهم الكثير من الناس وبين الاستدلال السليم، منها ما يرجع إلى قلة المعلومات، ومنها ما يرجع إلى طريقة الاستدلال، على أن أهم هذه العوامل المعوِّقة هى عوامل انفعالية وعاطفية، منها على سبيل المثال: «عدم كفاية المعلومات»، فالمرء لا يستطيع القيام بحل مشكلة ما دون أن تكون لديه المعلومات الضرورية المتعلقة بموضوع المشكلة. فليس من الممكن، مثلًا، حل مسألة رياضية دون معرفة المبادئ الأساسية التى يتوقف عليها حل المسألة. فمن الضرورى أن يكون الإنسان على علم بجميع المعلومات الضرورية المتعلقة بتلك المسألة، وأن يحاول النظر إليها من جميع الزوايا المختلفة حتى تتضح له المبادئ الرئيسية أو العلاقات الضرورية لحلها.
ومن الممكن أيضًا أن تكون معلوماتنا السابقة الخاطئة حول موضوع المشكلة التى نريد حلها، من العوامل التى تعوق تفكيرنا عن الوصول إلى حل لها. ومن الأمثلة الأخرى على تلك العقبات التى تقف حجر عثرة فى طريق التفكير السليم «غموض المعانى وإبهامها»، فالناس تجتمع وتتفاهم بواسطة اللغة، وتتناسب الأسماء التى تُطلق على الأشخاص والأشياء مع عقلية العامة. ومن هنا كانت أكثر الكلمات غير دقيقة، ومعظم العبارات غير سليمة، ومن ثمَّ صارت اللغة تشكل عقبة أمام العقل. وكم من كلمات مبهمة، وكم من ألفاظ تُسَمِى أشياء لا وجود لها، ولذا يجب مراعاة الدقة فيما نستخدم من ألفاظ، وفيما نعطى تلك الألفاظ من معانى.
غموض المعانى وإبهامها هو إذن من أكبر عوامل سوء الفهم بين الناس، وعقبة كبرى فى سبيل حل المشكلات واتخاذ القرارات. فمن موضوعات الجدل الذى لا ينتهى الكلام عن حقوق المواطنين وامتيازاتهم على أساس ما يقال من أن الناس خلقوا «متساويين»، ذلك أن كلمة «التساوي» هنا لا تعنى ما تعنيه فى الرياضيات، ولا تعنى أن الناس يولدون متساوين فى القدرات والاستعدادات وسمات الشخصية، بل تعنى وجوب التساوى بينهم فى الحقوق والفرص: حق الحرية وحق التمتع بالحياة، وأن تمنح لهم فرص التكافؤ فى مجالات التعليم والعمل كل حسب قدراته ومواهبه وإنتاجه، بصرف النظر عن المولد والقرابة والطبقة الاجتماعية.
وبصفة عامة يمكننا أن نقول إن سوء استخدام اللغة لا يساعد على حل المشكلات بقدر ما يؤدى إلى خلق المزيد من المشكلات. وهذا ما أطلق عليه «فرانسيس بيكون» اسم «أوهام السوق». فهو يطلق هذه التسمية على الأخطاء التى تنشأ من استعمال اللغة فى التفاهم ونقل الأفكار. ومصدر الكارثة فى هذا النوع من الأخطاء، هو أن الناس، كما يقول «بيكون» بحق: «يعتقدون أن عقولهم تتحكم فى الألفاظ التى يستعملونها غافلين عن أن الألفاظ -فى واقع الأمر- هى التى تعود بعد نحتها كى تتحكم فى عقولهم». 
أما «التحيز الانفعالي» فهو عائق كبير فى طريق التفكير السليم إذ إن ميولنا واعتقاداتنا واتجاهاتنا الفكرية تؤثر إلى حد بعيد فى تفكيرنا وحلنا للمشكلات. وفى إحدى التجارب قُدِمَ إلى مجموعة من الطلبة الأمريكيين اثنان وسبعون برهانًا قياسيًا وطُلِبَ منهم أن يبينوا ما إذا كانت النتيجة تعتبر نتيجة منطقية مستخلصة من المقدمتين المستخدمتين فى القياس. إن نصف هذه البراهين القياسية كان يتعلق بأمور لا تثير الانفعال. أما النصف الآخر من البراهين فكان يتعلق بأمور مشحونة بالانفعال. فبعضها كان يتعلق بالزنوج، وبعضها يتعلق باليهود، وبعضها يتعلق بالعرب، وبعضها يتعلق بدور المرأة، وبعضها بشعارات وطنية مختلفة. وقد تبين من نتائج هذه التجربة أن جميع الأشخاص وقعوا فى عدد من الأخطاء فى البراهين المشبعة بالانفعال أكبر من عدد الأخطاء التى وقعوا فيها فى البراهين الأخرى المحايدة من الناحية الانفعالية، ما يدل على أثر الانفعال فى التفكير، حيث يميل بالتفكير إلى التحيز والوقوع فى الخطأ.
وغالبًا ما يأتى التحيز من نسق القيم الذى يشوه الواقع، فالتمييز العنصرى فى أغلبه ينطوى على التقليل من شأن الآخر. وتوضيحًا لذلك نأخذ المثال الآتي:
أورد أحد علماء الجريمة الأمريكيين ممن يؤمنون بالتفرقة العنصرية إحصاءً بعدد الزنوج النزلاء فى بعض السجون الأمريكية، ونسبتهم إلى عدد النزلاء البيض، وانتهى إلى القول بأن الملونين أكثر ميلًا -بفطرتهم- إلى ارتكاب الجرائم. مع أنه لو قام بتحليل الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التى يعيشها الملونون فى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة ولايات الجنوب، لما انتهى إلى القول إن الملون يميل بطبيعته لارتكاب الجريمة. وهو بهذا إنما ربط ربطًا سببيًا بين صفتين ليست بينما أساسًا علاقة سببية، وهما لون البشرة والسلوك الإجرامى، إنما قام بهذا الربط تأييدًا لفكرة سابقة فى ذهنه هى التفرقة العنصرية على أساس اللون، وكأنه بهذا يتلمس الأمثلة المؤيدة لفكرته، ويعتبرها شواهد صدق على صحتها. إن فعالية تفكيرنا إنما تتوقف على كوننا موضوعيين، وعلى ألا تكون نظرتنا إلى أنفسنا والعالَم شوهاء. ذلك لأن التحيز، الذى يتخذ شكل تحمس زائد للرأى الذى يقول به الشخص نفسه أو العقيدة التى يعتنقها، إنما يؤدى بالمرء إلى عدم التفكير فيما يتعصب له، بل يقبله على ما هو عليه فحسب، ومن ثمَّ فالتحيز يلغى التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع قيم الخضوع والطاعة والاندماج، وهى قيم قد تصلح فى أى مجال عدا مجال الفكر.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الإنسان يميل بفطرته إلى تصديق ما يحب وإلى إنكار ما يكره واعتباره باطلًا، وحين يكون الواقع مريرًا يتخاذل المنطق. غير أنه يعز علينا أن نعترف بأننا كثيرًا ما نعتقد ما نريد أن نعتقد، وأن آراءنا تتأثر برغباتنا وعواطفنا إلى حد كبير، بخاصةٍ آرائنا فى الناس وفى أنفسنا. زد على ذلك أن قليلًا هم الذين يفكرون قبل أن يعملوا، فالأغلب أننا نسلك أولًا ثم نلجأ بعد ذلك إلى التفكير لتبرير سلوكنا وآرائنا والدفاع عنها، أى أننا نقوم بأفعال معينة، ثم نفكر فيما فعلناه -هذا إذا فكرنا أصلًا- وذلك يفسر لنا غياب ثقافة الاعتذار فى مجتمعاتنا فنحن ندافع عن أفعالنا (أخطائنا) التى قمنا بها فى غيبة التفكير السليم.