حين تحتدم المعارك تظهر الإخوان على الفور، لتناور، وتّدعى، وتكذب، وتحاول أن تكسب كعادتها.. وهذا ما بدا بكل وضوح عقب الإعلان عن وفاة محمد مرسى فى ساحة محاكمته، حيث سيبدو من تعليقات وبيانات جماعة الإخوان وأذرعها الفوائد التى ستجنيها من وفاة الرجل، الذى استغلته حيًا وميتًا طوال الوقت، فهو لم يكن رئيسًا بمعنى الكلمة، ولم تكن لديه مؤهلات ذاتية تمكنه من المنصب، لكن الجماعة رشحته لأنه الوحيد فقط الذى بمكن قيادته من الخلف، واستفادت أيضًا من وجوده بالسجن، وكانت تصدر البيانات ممهورة باسمه لتدعو من خلاله عناصرها والجماهير لاستمرار التظاهرات ضد السلطة الجديدة، بحجة أنه الشرعية الوحيدة لكرسى الحكم، والآن ستستفيد أيضًا منه رغم أنه أصبح جثة هامدة، وخرجت روحه إلى بارئها.
إن الفائدة الأولى التي سيحصل عليها الإخوان من وفاة مرسى هى تلك المظلومية التى ستستمر، والعواطف الجياشة التى ستهيجها بطريقة أكبر بحجة أن الرجل توفى بالسجن مظلومًا، وهذا بالفعل ما قامت به الجماعة، حيث أصدرت بيانًا ادعّت فيه أن الرجل تم قتله ببطء، وأنه تعرض للقهر والتعذيب، رغم أن ذلك مخالف لعين الحقيقة تمامًا، ولولا فضل الله على مصر، وموت الرجل أمام زملائه بالمحكمة، لادعى التنظيم أنه تمت تصفيته فى محبسه.
إن هذه الحركات بما فيها الإخوان بمعناها الواسع اختفت فيها النظرية النقدية، وتضخمت بعدها المصالح الحزبية، وقصر النقد الذاتى بل وغاب فى أحيان كثيرة، هذا بالطبع لأن الانتماء لجماعة أصبح قيمة محورية وواجبة أساسية، وتحولت التنظيمات إلى هدف بحد ذاته، وصارت دعاوى المحافظة عليها هدفًا لتبرير الحرفية والجمود والالتفاف عن دعوات التجديد والتطوير، وأصبحت إفرازات التعصب والجهل واضحة، والمنتمى لجماعة يحسبها أنها على الحق الأوحد، فالانتماء لجماعة تدّعى أنها تمثل الإسلام دون غيرها يجعلها تستبد بالمرجعية، ومستعصية على التجديد فى القول والعمل، طالما استطاعت حشد الجماهير، وهذه هى إشكالية كبيرة، ومن ثم فإنها تستغل أى حدث يعيدها إلى الصورة من جديد، وهذا ما تفعله الإخوان الآن، التى بدأت الأضواء تنزاح عنها خلال الأيام الفائتة.
الفائدة الثانية هى ذلك الدفع الذى سيدفعه التنظيم تجاه العنف، من خلال استغلال الوفاة فى إثارة الجماعات الإرهابية والأذرع المسلحة، حتى لو كانت هناك تباينات أيديولوجية معها، فتلك التنظيمات دائمًا جاهزة، وطوال الوقت تستطيع الإخوان أن تحركها يمنة ويسرة فى الاتجاه الذى ترغب فيه، طالما أن ذلك يخدم مصالحها!.. إن هذا ما يمكن أن يتبينه أى مدقق ومراقب للتاريخ الإخوانى، فهى كانت تستنكر العمل المسلح فترة التسعينيات بمصر ظاهريًا، لأن ذلك لم يكن فى صالحها، فى الوقت الذى كانت تدعمه فى أفغانستان ومناطق أخرى، وهى ناجحة حتى الآن فى اللعب بهذه الازدواجية، وغسل يدها من القاعدة وداعش، فى الوقت الذى تمرر فيه عناصر منها إلى هذه التنظيمات، ولا تستنكر أبدًا أى عمل لهذه التنظيمات، وتغض الطرف عنها بشكل مريب وعجيب.
إن الإخوان القديمة، التى كانت تتحدث عن التغيير الإصلاحى، التى كانت دائمة النقد لمن يريدون التغيير الفوقى، وممارسى العنف فى التسعينيات، تتحدث الآن، بنفس مفردات الجهاديين، وهى: دفع الصائل، وتغيير المنكر، وكفر الحاكم، والانتقام، واللجان النوعية، وقتال الطائفة.
هل يستطيع أحد الآن من قيادات الإخوان، أن يوضح لنا الفروق الآن، بين الإخوان، وجماعة الجهاد، أو بين الإخوان وجماعة بيت المقدس؟.. إنها نفس الاستراتيجيات والأفكار.
لقد انزلقت الجماعة إلى مستنقع السلفية الجهادية، ووصلت حدود دعمها اللوجستى والاجتماعية، لهذه المجموعات مبلغًا عظيمًا جدًا، واستفادت من وجود جيوب صغيرة من الإسلاميين المتطرفين الساخطين، وشكلتهم فى استراتيجية للأعمال القتالية، وتصورت أن زعزعة استقرار البلاد لأطول فترة ممكنة قد يحوّل ميزان القوى لصالحها، إلا أنه لا يمكن أن تفصل جماعة عن تاريخها، كما لا يمكن أن تتحول فجأة من الأسفل إلى الفوق، فسيحصل الشرخ، وهذا ما جرى بالضبط.. الشرخ الإخوانى عظيم الآن، والجماعة لن تستطيع أن تنسف ما حصل بسهولة، كما لن تستطيع أن تعود سيرتها الأولى.
الفائدة الأهم برأيى، هى سقوط ما يسمى (الشرعية)، وهى التى كانوا يسوقونها دائمًا طوال الوقت، وكانت هذه المسألة مفيدة للجماعة بشكل كبير، فهى الحجة الجاهزة لاستمرار العنف والمعارضة، وهى المعادلة التى أيضًا كانوا لا يكفون عن الحديث عنها خارجيًا وداخليًا.
إن وفاة مرسى حدث ستستغله الإخوان بشكل كبير، وله ما بعده، فما يمكن أن تكون عليه الجماعة بعد أن ماتت إلى الأبد حجة الشرعية التى كانت تجعلها عصية على التراجع خطوات إلى الوراء خوفًا من الانقسام الداخلي.
إن هذه المعادلة الآن وقعت الوفاة لتحلّها للأبد، وأصبحت الجماعة فى حل من مسألة الشرعية، وهى التى كانوا كلما فكّروا فى نسيانها لحظات أثار ذلك شبابهم وبعض قياداتهم، ولم يعد الآن بمقدورهم التحجج بها مرة أخرى، بل ويمكنهم الآن التراجع خطوات للوراء دون أن يعتب عليهم أحد، خاصة مجتمع الداخل الإخوانى، الملىء بالمفارقات والخلافات والانهيارات الداخلية.
فى الختام، فإننا أمام الموت نقف إجلالًا، حيث انتهت الآن الخصومة السياسية مع رجل بمجرد أن لفظ أنفاسه الأخيرة، لكنه كرئيس سابق تم عزله بفعل ثورة شعبية فسنتركه للتاريخ لكى يحكم عليه دون تزييف أو تضليل، وكيف كان قبل كرسى الحكم؟ وكيف حكم؟ وكيف انتهى؟ وكيف ستستفيد منه جماعته وتتاجر بوفاته؟