قد يبدو ما نسترجعهُ هنا إطلالة وملمحًا لسيرة وسيلتى اتصال وتواصل تقليديتين انطلقتا بدءًا عبر أثير الجغرافيا المحدودة ووفرتا الترفيه والمعلومة هما «الراديو» ورفقة الصورة حين بزغ «التليفزيون»، من غابر ما قُلبت صفحاته خلال قرن مضى، فقد ترسم استخدام الراديو عالميا مع العقد الثانى للقرن العشرين (أمريكا فبراير 1920) ولحقه التليفزيون بفارق عقد واحد (أوروبا فى 1935) وإن تأخر ليصبح البث كاملا وبانتشار أوسع مع الخمسينيات، وعربيا كذلك كانت شبكة جهازى الراديو والتليفزيون مع جثوم الاستعمار على جغرافيتنا، وجاء توافق تفعيل أجهزة الاتصال فى ذات توقيت «موطن» بلد المُستعمر، لصلة الوسيلتين بأعمال حربية واستراتيجية إعلامية معلوماتية، إيطاليا فى ليبيا كنموذج لذلك.
ومع ما نشهده من تطور فى وسائل الاتصال اللاسلكى فكل ذلك لم يمنع أن ما تأسس أولا كاختراع، ظل هو المفتاح والمبتدأ وسيلة وهدفا فيما يُراد ويتغيا تقديمه فى علاقة بالجهازين كمُرسل بمرسل إليه. الراديو اليوم فى جهاز الموبايل كما الكاميرا والفيديو، والبث المباشر الذى يُقارب البث التليفزيوني، وصار المواطن مالك جهاز الموبايل يكتب ويقرأ ويسجل ويصور ويؤرخ ويوثق، هو شاهد عيان لأحداث حياتية مختلفة، بل إن بعضها يصبح مرجعا ومصدرا لقنوات تتبع مؤسسات كبرى، نقلة من البث التقليدى التناظرى إلى بث الإنترنت، صار «حداثويا» لكن بغرض الترفيه والمتعة، والإفادة بالمعلومة إخبارا ظلا الهدفين المتوازيين لكل منهما فى علاقته بالجمهور مباشر (على الهواء) أم غير مباشر(مسجل).
فى البدء كان ماركوني.
كانت ليبيا محط اشتغال مبكر لوسائل الاتصال اللاسلكية فى شقيها الحربى والسلمى ما تظهره المصادر المؤرشفة لذلك، فمع عقد الاحتلال الإيطالى الأول 1911م وظف مواطنها «غولييمو ماركوني» (1874-1937) الحائز جائزة نوبل فى الفيزياء 1909 م وبوقوفه على أرض المعارك، اختراعه جهاز الاستقبال اللاسلكى فى تأمين اتصالات الجيش الإيطالى عبر الصحراء الليبية وإلى القيادة البحرية، ولتحوز ليبيا عربيا ولعلها عالميا تاريخا يجعلها فى مصاف الريادة لاستخدام محطات الاستقبال والبث «التلغراف» والراديو.
وعلى ذلك ستتوفر المحطة الإذاعية الإيطالية بعاصمة البلاد بواقع الحال، وسينخرط إذاعيون ليبيون أتقنوا الإيطالية فى العمل الإذاعى آواخر ثلاثينيات القرن الماضى عبر أول محطة إيطالية فى ليبيا، ثم عقب الحرب العالمية الثانية أثناء الإدارة البريطانية التى ستولى اهتماما بمحطتين بطرابلس وبنغازي، ستخرج إذاعة طرابلس العربية وسيجرى بث باللغتين للأخبار، وسينبرى الإذاعيون مع الأربعينيات فى تقديم البرامج الاجتماعية والدينية والفنية، وطبقا للظروف العسيرة لبلد ينوء تحت ثقل ثلاثى البؤس: الفقر والجهل والمرض، وقد كان ساحة حرب لا ناقة له فيه ولا جمل غير صراع متحاربين دوليين حلفاء ومحور أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى ذلك أيضا سيصبح سنتها من المستبعد أن تنبثق بُرعمة (مذيعة) تُفضى بصوتها الناعم، وخشونة وشظف العيش يفرض واقعه بمحظوره الاجتماعى وعوائق الزمان والمكان سيتواجد مستمعو الراديو فى أماكن عامة قبل أن يصير جهاز الراديو فى بيوت كل الناس مع منتصف الخمسينيات.
صالحة ظافر تذيع بيانها 1949م
سيكون من اللافت فى سيرة نهضة نساء ليبيا أن ينطلق صوت أنثوى عبر الأثير يحمل مشروعا مفارقا قياسا بالمرحلة مناديا حيا على العلم يا فتيات طرابلس، ففى ذات المحطة الإيطالية المؤسسة باكرا وأثناء حقبة الإدارة الاستعمارية البريطانية لولايتى برقة وطرابلس، ستشقُ طريقها الرائدة الناهضة العائدة وعائلتها عام 1945م من مهجرها بين السعودية وإيطاليا، صالحة ظافر المدنى إلى مبنى المحطة بطرابلس، ستردُ قصة ذلك فى مقال بعدد جريدة «طرابلس الغرب» ما ستوثقه الأديبة شريفة القيادى فى كتابها رحلة القلم النسائى الليبي، ومما كتبته فى مقالها عن إذاعتها «البيان» بجريدة طرابلس الغرب العدد 3 فبراير 1949م: «لا شك أن هذه مناسبة تسركم وأنتم تسمعون صوت أول فتاة طرابلسية تتناقله أمواج الأثير... أخواتى بناتى إن أول موضوع افتتح به كلمتى هو حثكن على الاغتراف من مناهل العلم.. أخواتى بناتى جدن واجتهدن فى طلب العلم ولا تستمعن إلى أقوال الرجعيين أعداء كل تقدم ونهوض..».
ـــــــــــــــــــــــ
• عنوان المقال هو اسم مجلة «هنا طرابلس الغرب»- نصف شهرية أصدرها مكتب إذاعة طرابلس- ترأس تحريرها المؤرخ الأديب على مصطفى المصراتى عام 1954م.