استهلكنا الكثير من الوقت
ونحن ندرس ونقوم بتدريس نظرية تُسمى «صراع الطبقات الاجتماعية». ترى هذه النظرية
ببساطة أن كل طبقة فى المجتمع تقاوم الأخرى وتحاربها من أجل الحصول على مكاسب
اجتماعية واقتصادية أكثر. ظهر هذا المفهوم لدى بعض المؤرخين الفرنسيين
الليبراليين، أمثال جوستان تييرى فى القرن التاسع عشر الميلادى، ثم جاء كارل ماركس
ليؤكد هذه المفهوم فى القرن العشرين، وتداوله دعاة السياسة الداعية لتقسيم المجتمع
حتى لو عن طريق دعم طبقة من طبقاته.
ثم يأتى برنامج مفيدة
والشيف ليختصر كل هذه المفاهيم الطبقية بكلمة واحدة فقط هى «التعايش». تقوم فكرة
البرنامج ببساطة على أن تصحب مفيدة شيحة، المذيعة بإحدى القنوات، الشيف شربينى فى
حلقات يومية طوال شهر رمضان، تقوم بدور مقدمة للبرنامج ومساعد شيف، من أجل اجتياز
مجموعة من الاختبارات فى نهاية كل أسبوع. تتحدث المذيعة بتلقائية طوال الوقت عن
نشأتها فى مصر الجديدة وحياتها الحالية فى التجمع الخامس، بينما لا يتوقف الشيف عن
الحديث عن حياة ولاد البلد وخبرته فى الأكل البلدى «يوكل»، ويعمل مخرج البرنامج
على إظهار تفوق الخبرة فى تخصص الطبخ لدى الشيف طوال الوقت. يحدث كل ذلك وسط سيل
من الاتصالات الهاتفية التى لا توقف هذه الحركة المنسابة فى تلقائية وجو فكاهى
لطيف لا تتصادم فيه الطبقات، ولا يحاول أي من الشريكين فرض عضلاته على الآخر، وهى
حالة يندر أن تراها فى برنامج بهذا الشكل التلقائى. يتجلى ذلك فى أكبر صوره فى
الاختبارات التى يعدها الشيف لمساعدته كى تتحدى ضعفها وتنجح فى طهى وجبات غير
مألوفة بالنسبة لها، إذ تظهر المذيعة شجاعة ولا تظهر نفرها من أى شيء مما تقوم
بعمله. فوجئ المشاهدون فى إحدى الحلقات برأس عجل بلدى تتوسط طاولة المطبخ فى
الاستوديو، وثانية بـ«قرموط» حى يتحرك بين الأطباق بحرية، ومطلوب من مفيدة أن تحول
كل ذلك لوجبات جاهزة للأكل. هى تصرخ وتتحرك بعيدًا عما تتخاف، لكنها تكتفى بجملتين
اثنتين تقولهما فى كل مرة، وإن اختلفت صياغاتهما: «إنها أكلات جميلة ولها محبوها
ولكنى لا أحبها شخصيًا». يتفاعل معها الشيف بقبوله المعهود لدى المشاهدين محاولًا
التمسك بفارق السن بينهما لصالحه فى ذكاء تلقائى.
إن هذا البرنامج يقدم لنا
بشكل بسيط المنظور التحررى الذى قدمه جيرمى بنتام فى كتاباته عن مقاومة الطبقات
بعد الثورة الفرنسية، وكان يرى ببساطة شديدة أن سبب الصراع الطبقى الأساسى هو أن
كل طبقة تنتعش حين تقهر الأخرى، وأعطى لذلك مثالًا رآه دائمًا، وهو أن كل مجتمع
لديه طبقتان أساسيتان، هما: العمال، والنبلاء، وطالما كانت الأولى تدفع الضرائب للثانية
بشكل مادى مباشر أو غير مادى مثل تعظيم المقام، فإن الصراع سيظل. كان الحل البسيط
المباشر أن تتحقق الفائدة المشتركة. وهو ما يقدمه هذا البرنامج. كلنا باشوات حين
نتقدم فيما نقوم به. ولن نننسى ما قدمته مارثا ستيوارت قبل ذلك من رفع المرأة
الريفية على الجميع، لأنها تقدم ما يحتاجونه ولا تحتاج ما يقدمونه، حتى أصبحت ثالث
امرأة لها نفوذ قوى فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما شاهدنا كيف حولت درو
باريمور تلك السخرية اللاذعة التى لاقتها لهجتها الريفية الجنوبية إلى نجاح حين
استطاعت أن تجعلها بصمة مميزة ترافق شخصيتها أثناء أداء أدوار مميزة، ورغم مرور ما
يقارب الثلاثين عامًا على بداية احترافها للتمثيل إلا أنها ما زالت تحب لجنتها تلك.
نستطيع جميعًا أن نحول ميزان المصالح الطبقية حين نحول ميزان المنافع، لذا حين تتساوى كفات المنافع بين كل الطبقات فإن هذه الطبقات تحترم بعضها قدر انتفاعها من بعضها البعض. إن المقولة المعروفة «من يملك، يحكم» تصبح بعد تعديلها «من يملك المنفعة يحكم من لا يملكها» دستورًا يغير العلاقة بين الطبقات طوال الوقت، ويتسبب فى استقرارها حين تستقر المنافع فى ذات الاتجاه فترة طويلة. دارت كل أفكار الفلاسفة حول هذه القاعدة خلال العصور الإنسانية. أدركا أن المساواة بين الطبقات التى تحدث عنها أفلاطون والفارابى فى جمهورية الأول الفاضلة ومدينة الثانى الفاضلة، لو تحققت على الأرض لضاع قانون المنافع وغابت قدرة الإنسان على تحقيق طموحه فى التفوق بقدراته المختلفة. من هنا استطاع برنامج الشيف ومفيدة أن يقدم صورة للمنافع المختلفة بين الطبقات تجعل من تعايشها معًا أمرًا لطيفًا بل محققًا لنجاح فى عمل مشترك.