الحقيقة دائما ما تقع فى نقطة متوسطة بين طرفين متناقضين، ومقدرة أى إنسان على أن يقول الحق حتى وإن كان ضد أفكاره ومعتقداته يرتبط ارتباطا وثيقا بتربيته وتعليمه وثقافته وثقافة المجتمع المحيط به. وفى طرق التعليم الحديثة يجب تشجيع الطلاب منذ الصغر على التفكير والتحليل والنقد والابتكار، بحيث يتغير حكم الفرد على الأشياء حسب المعطيات والدلائل والأرقام والمتغيرات المحيطة، وألا يكون الحكم على الأشياء أو الأشخاص نمطيا أو نابعا من دواعٍ شخصية أو متأثرا بأى عوامل مرتبطة بلون الجلد أو العرق أو الجنس أو الديانة أو اللغة أو الانتماء السياسى أو درجة القرابة أو ما شابه ذلك.
وهذه التربية العلمية والتفكير العلمى الموضوعى البعيد عن الأهواء هى نتاج التراث الحضارى من العلم والبحث والتطور على مدار آلاف السنين، وهى جوهر دعوات جميع الديانات السماوية، وهى اتباع الحق والعدل، والحكم المجرد المبنى على الدليل ومن دون أى وجهة نظر شخصية، وكأنك القاضى الذى يقف فى النصف تماما، وتحكم بميزان حساس وأنت معصوب العينين، لا ترى إلا الحق ولا تنطق إلا بما يمليه عليك ضميرك.
ومن أهم مميزات المجتمعات الإنسانية التى تقدمت وحققت درجة كبيرة من النمو الاقتصادى والعلمى والثقافى، وحققت نظاما حياتيا منضبطا وعدالة اجتماعية، ودرجة عالية من الاستقرار، هى المجتمعات التى اتبعت التفكير العلمي. ولم تصل أوروبا إلى ذلك إلا بعد صراع مرير مع الكنيسة، انتصرت فى نهايته الدولة المدنية على الدولة الدينية.
أما المجتمعات التى أغفلت المنهج العلمى الموضوعي، وسادت فيها الانطباعات والأهواء الشخصية فهى المجتمعات التى عاشت لقرون طويلة تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، أو فى صراعات داخلية بسبب الاختلاف العرقى أو الديني، أو أهملت التعليم لفترات طويلة، بحيث أصبح الفرد لا يرى إلا مصلحته أو مصلحة عشيرته فقط. وأصبحت الأحكام والقوانين فى المجتمع تفرضها الفئة الأقوي، حسب مصالحها دون غيرها، ولذا ينعدم الشعور بالعدل وتكثر الثورات والحروب الأهلية ويعم الفقر ويزداد الجهل وينتشر المرض.
ولكى لا يكون المقال فلسفيا أكثر من اللازم، فسوف نعطى أمثلة من الواقع الذى نعيشه فى حياتنا اليومية، ونلمسه فى الصحافة والتليفزيون وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهو رأى المثقفين من المشروعات العملاقة التى تشهدها مصر حاليا.
فعند قراءة أو مشاهدة أو مناقشة أقطاب المعارضة المصرية فى الخارج أو الداخل، فسوف ترى أن وجهة نظرهم سلبية على طول الخط، فكل المشروعات العملاقة التى أنشأتها الحكومة فى الخمس سنوات الماضية كانت فى غير محلها، وأهدرت ثروات مصر، وزادت من أعباء الديون، وأضرت بالاقتصاد، وأهملت التعليم والصحة، ورفعت الأسعار وأضرت بمحدودى الدخل، ولم تحقق أى فائدة لمصر على المدى القريب أو البعيد.
وعلى النقيض تماما، إذا استمعت أو ناقشت أحدًا من المؤيدين للنظام الحالي، فسوف تجده متعصبا لأهمية المشروعات العملاقة بدءا من حفر قناة السويس الجديدة، إلى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، وإنشاء الطرق والكبارى العملاقة، وإنشاء المدن الجديدة، والجامعات الجديدة. فهى من وجهة نظره استثمار طويل الأجل، ويبنى للأجيال القادمة، ويجذب الاستثمار الخارجى ويساعد على إيجاد فرص عمل للشباب.
أما الرأى العلمى المحايد، والذى تسمعه من الخبراء المصريين والأجانب، وتقرأه فى الصحف الدولية والجرائد المتخصصة، فيرى أن هناك نقاطا إيجابية كثيرة، ومعدل نمو جيد، ومزايا لقطاعات كثيرة ذات عمالة كثيفة مثل التشييد والبناء. وأن هناك أيضا نقاطا سلبية يجب الانتباه إلى معالجتها، أهمها زيادة الدين الخارجى والداخلى بصورة غير مسبوقة، وقلة الإنفاق العام على التعليم والصحة، وتحميل أعباء الإصلاح الاقتصادى على الفقراء ومحدودى الدخل وهم يمثلون أكثر من نصف تعداد الشعب المصري.
والخلاصة، أن جزءا غير قليل من المجتمع المصرى ما زال يحكم على الكثير من الموضوعات العامة حسب تقديرات وتوجهات شخصية ضيقة، وأنه ينظر إلى الكوب على أن نصفه فارغ، والحقيقة أن الكوب نصفه فقط هو الممتلئ، وأنه يجب علينا جميعا أن نعمل على استكمال النصف الآخر.