تمثل الفلسفة الأمريكية لدور شبكات التواصل الاجتماعى وأدوات الإعلام والاتّصال الخلفية الفلسفية والفكرية لاستراتيجيات وسائل الاتّصال والإعلام التى تتبناها وزارة الخارجية الأمريكية، وهى نفسها خلفية المدرسة الأمريكية الكلاسيكية، التى صاغها المفكر وعالم الاتصال الكندى مارشال مكلوهان التى تقول: «إنّ شكل وطبيعة وسائل الاتّصال والإعلام فى أيّ مجتمعٍ وأيّ عصرٍ هى التى تصوغ شكل التنظيم الاجتماعى والسياسى وليس العكس، وإنّ نشرَ وتعميم وسائل الاتّصال والإعلام فى المجتمعات هو هدفٌ فى حدّ ذاته، لأن أدوات ووسائل الاتّصال والإعلام تخلق شروطَ نموّ البيئة الليبرالية التّحرُّرية والديموقراطية فى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ومَنْ يتصفّح الموقع الإلكترونى الرقمى التابع لوزارة الخارجية الأمريكية يجده حافلًا بالوثائق التى تؤكد هذا المنحى، وذلك من خلال تمويل الوزارة لمشروعات وصول شبكة الإنترنت إلى كلّ إنسان على وجه الأرض بكلفة شبه مجانية على المشترك والمُستخدِم، وتمويل مشروعات وتقنيات تكنولوجية مضادة للاحتواء والتّحكُّم لمنع الحكومات والأنظمة فى مختلف دول العالم من السيطرة والرقابة على أنشطة المُستخدِمين، أو التّحكُّم بمستخدمى الشبكة، وربط وسائل التواصل الاجتماعى على الإنترنت بالهاتف المحمول لِجَعْلِهِ بعيدًا عن شبكات الاتّصالات المحلية الخاضعة لسيطرة الحكومات.
وتتبنى الإدارة الأمريكية استراتيجية لنشر شبكة الإنترنت وتعزيز القوة السيبرانية
لتحقيق مجموعةٍ من الأهداف العامة، وخاصة شبكات التواصل الاجتماعى فى العالم، وفى الساحات المعادية لها على وجه التحديد، نذكر منها.
- عولمة البشرية وربطها بشبكة التكنولوجيا الأمريكية فى إطار تعزيز القوة السيبرانية، وهو المصطلح الذى استخدمه «جوزيف ناي» مُنَظِّر القوة الناعمة قائلًا: «إنّ هذه القوة ستكون الأخطر والأكثر فعالية فى القرن الحادى والعشرين»، وهو ما عبَّرت عنه نصوص المجلة الإلكترونية لوزارة الخارجية الأمريكية بالنص الآتي: «لقد وضَعْنا العالَم بين أصابع أيدى المُستخدِمين، فالمُستخدِم يتعرّف على العالّم من خلال لوحة الكيبورد Keyboard أو شاشة اللمس Touch فى الهواتف الذكية، ما يؤدّى إلى برمجة الأفراد المُستخدِمين لهذه الشبكات على أنماط تفكيـر المدرسة الليبرالية الأمريكية وسلوكياتها ومنظومة قيمها.
- ربط الأفراد والمجتمعات بشبكات التواصل الاجتماعي، التى هى أدوات «التكنولوجيا السياسية» Political Technology وفق تعبير «إريك شميدت»، مدير شركة «جوجل» العالمية، فقد لعبت هذه التكنولوجيا السياسية دورًا فى تحريك وتعبئة الاحتجاجات فى إندونيسيا عام ١٩٩٨ لإسقاط سوهارتو، وفى احتجاجات هونج كونج عام ٢٠١٤ لإسقاط الوصاية الصينية على حكومتها، وفى أحداث ما سُمّى بالـ«الربيع العربي»، فمَنْ يقرأ كتاب: «كيبورد وميدان» الذى أصدرته «المنظمة العربية لمعلومات حقوق الإنسان» عام ٢٠١٢، يتأكّد من ثنائية التكنولوجيا والسياسة، فـ«الكيبورد» Keyboard (لوحة المفاتيح) له دلالة على مفردة «التكنولوجيا»، و«الميدان» له دلالة على التأثير والدور السياسي، ومن هنا ليس صدفة قول «أليك روس» المستشار التقنى لوزارة الخارجية الأمريكية: «إنّ الإنترنت أصبح تشى جيفارا القرن الحادى والعشرين».
- ضرب القيم المُحافِظة للمجتمعات عبر شبكات التواصل الاجتماعى وتطبيقات الهواتف الذكية، إذ أنها مُصمّمة لفتح قنوات الاتّصال والتواصل بين النساء والرجال: الاختلاط والصداقة الإلكترونية، وهو ما يغيّر من التصور المحافظ للقيم الدينية والاجتماعية وأنماط العلاقات بين الجنسين: الذكر والأنثى؛ فمجرد أنْ تُفتح قنوات التواصل، ويخرج الناس إلى الشبكات الإلكترونية، تعتبر الخارجية الأمريكية أنّ الليبرالية والقيم الأمريكية فى مرحلةِ توسُّعٍ، لأن المُستخدِم لهذه الوسائل سيصبح حتمًا فى دائرة تأثير القوة الأمريكية الناعمة.
- استكشاف وبناء القيادات المستقبلية، والتّعرّف على الناشطين، ودعم شبكاتهم ومُنظَّماتِهم، بدليل تأسيس الخارجية الأمريكية لتحالف المنظمات الشبابية، الذى يُديره «جاريد كوهين» مدير لجنة التخطيط السياسي، كما ُيستدلُّ على ذلك، أيضًا، من خلال نشر موقع وزارة الخارجية الأمريكية كتابٍ ودليلٍ إرشاديٍّ لتأسيس وتنمية «منظمات المجتمع المدنى ٠.٢»، وغيره من الكتب والأدلة الإرشادية للغاية نفسها.
- توحيد اتّجاهات المعرفة البشرية: فموسوعة «ويكيبيديا» العالمية تديرها الإدارة البريطانية - الأمريكية، وهى مصممة لإعادة كتابة موسوعة ودائرة معارف عالمية، حيث يتردد عليها حوالى نصف مليار طالب وباحث حول العالم، فمحركات البحث العالمية اجتذبت الجمهور نحو المرجعيات المعرفية الشبكية، وفككت المرجعيات المعرفية التقليدية والتراثية عن طريق استقطاب الأفراد والناشطين من أيدى المرجعيات والمؤسسات التقليدية: القوى السياسية والأحزاب، العائلات والأُسر، المدارس والجامعات، الجمعيات والنوادى الثقافية، حيث جذبتهم نحو المنصات والشبكة العالمية الخاضعة للهيمنة الأمريكية.
- تعزيز فكرة العولمة الجغرافية والحدود المفتوحة، حيث تلعب خرائط «جوجل» الجغرافية GoogleMaps دورًا ناعمًا فى هذا المجال، باعتبارها أداة للتجسس من خلال جمع المعلومات وأرشفة الصور والخرائط، التى ينشرها مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، وربطها بوكالة الأمن القومى الأمريكى للمعلومات الجيومكانية National Geospatial-Intelligence Agency (NGA).
وتقوم وزارة الخارجية الأمريكية بتوظيف شبكات التواصل الاجتماعى بشكلٍ فاعل، ومَنْ يبحث فى موقع وزارة الخارجية الأمريكية عن كلمة «وسائل التواصل الاجتماعي»، يجد مئات النتائج حول برامج وأنشطة تتّصل بوسائل التواصل الاجتماعى ودورها فى بناء «المجتمع المدنى العالم. ومن المعلوم أنّ برنامج المجتمع المدنى المُرمّز له بـ ٠.٢، هو أحد أهم أهداف الوزارة، وهو مشروع يُقصد منه باختصار تقليص نفوذ الكيانات والمجتمعات والتيارات الثقافية والفكرية والسياسية المُنافِسة لصالح تعزيز تيار المجتمع المدنى المُعَوْلَم الموالى للولايات المتحدة وسياساتها وقيمها، حيث تستثمر وزارة الخارجية الأمريكية مئات الملايين من الدولارات فى تمويل برامج تقنية لدعم تقنيات التّملُّص من رقابة الحكومات على شبكات الإنترنت تحت عنوان: «الحق فى الوصول إلى شبكة الإنترنت». ويكمن الهدف من وراء هذه البرامج والتقنيات هو بقاء الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية للإدارة الأمريكية على جمهور المُستخدِمين الذى يزيد عن ملياريْ مُستخدِم حول العالَم.
ونستكمل حديثنا الأسبوع المقبل بإذن الله.