لماذا فقد الموت عقله ووتيرته، وأصبح لا يتريث في مد يده، بات غير عابئ بسن ولا مكان، غير مكترث بآلام ولا أوجاع.
ونحن صغار خطف الموت أحد زملائنا، فهجوناه في قصائد شعر وموضوعات تعبير في كراريسنا المدرسية، فاختفى مستحيا لأعوام وكأنه خجل، بات لا يلعب لعبته المقيتة مع الصغار، سوى مرة واحدة ونحن نستحم في النيل، جاء كوحش ضاري جوعان أراد أن يلتهم أحدنا، ففررنا من أنيابه إلى الشاطئ وقذفناه بالحجارة، وعاودنا الأمر حتى ألقينا على رأسه حجرا كبيرا ففقد عقله، وخرج يتخبط في الطرقات يخطف كل من يجده يمص دماءه ويلقيه جثة هامدة، كانت أمهاتنا تخبأنا منه في جلابيبهن ونخرج في حذر نتلفت يمينا ويسارا، فهو مختبئ في مكان ما.
حينما كبرت قليلا كنت أعلق على جدران روحي عبارة: "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا" كان بيت شعر لدرويش سكن روحي فاتخذته تميمة ربما صدته عني بعض الوقت.
ثم استدعت ذاكرتي حكاية قديمة لشيخ الكتاب كان قد كتبها على لوح خشبي، أنه ذات مرة حادث الموت، النبي سليمان بأنه سيقبض روح عريسا كان سيحضر زفافه، فتردد النبي سليمان ألا يذهب، ثم ذهب يتحسس خطاه ويتوجس خيفة فلم يحضر الموت الفرح، وحينما عاتبه سليمان قال له: جاءني أمر السماء بألا أفعل بعدما رفع والد العريس دعوة استجاب لها الله.
عرفت كم هو ضعيف حينما كشفت قطتان جائعتان سره، وضحكتا عليه وعلى ذلك الرجل البخيل صاحب الديك الذي كان قد دعا الله ليوهبه فهم لغة القطط، فسمعهما يتحدثان عن جوعهما وأن ذلك الرجل البخيل سيذبح الديك في فرح ابنه، فأجل الفرح، فحزنت إحدى القطتين وشكت للأخرى فقالت لها: "لا تحزني غدا سيموت الرجل البخيل وسيذبحون الديك وسيأكل المعزين ونأكل معهم، وهنا بكى الرجل ونهض يذبح الديك ويطهيه ويطعم القطتين، فغير الله قدره.
دعوت كثيرا بألا يموت أبي وفي كل مرة كنت أتخيله ميتا، حتى هزمني الموت قبل أن تفارق روحه جسده.. لكني أدركت بعدها أنه لم يمت بل من مات كان خوفي.
وفي هذه الأيام استوحش الموت، صار ضاريا لا يمكن إثنائه ولا صده، صار فعلا سهلا، كان ضيفا ثقيلا لكنه الآن أصبح جائرا مقيما يطرد أصحاب البيوت ويخيم فيها عنوة، ولأننا مهما تصدينا له لن نصده، إذا علينا أن نحرمه نشوة الانتصار.. لنبتسم في وجهه.. لنقل له أنه سيظفر تلك المرة لكن لنا حياة أخرى لن يكون فيها، سنستعيد منه ما خطفه منا.. سنضحك على أننا يوما ما أصابنا الهلع منه.. وأننا كنا نهرب منه في الطرقات.. وأننا كنا لابد أن نواجه بشجاعة فرغم وجهه المفزع إلا أنه لم يكن سوى جسرا لننتقل إلى حياة أبدية وجلسات سمر مع الأحبة.
في كل ليلة يجيئني يرطم شبابيك غرفتي بيده.. يطفئ فجأة التلفاز.. يقطع التيار الكهربائي.. يجذب مني حلمي في المنام، كان في بادئ الأمر يفزعني، لكنني الآن بعدما أصلي العشاء أكتب له رسالة أضعها على المنضدة: "يا أيها الموت لا تعبث بالأشياء مثل الصبية الصغار، لن تخطفني غمامات حزنك، لك عندي فقط لحظة ليس إلا ولن ترى فيها ضعفا ولا خوفا ولن ترى في عيني انكسارا.
إلى كل من هزمهم الموت في عزيز، هم يطلون علينا من شرفات الحياة الأبدية، ينادوننا ألا نطيل الرحلة وأن لا نفزع فهنا عناء وهناك بقاء، فإلى لقاء.