بعد الإفراج عن زعماء المعارضة واستقبال مبارك لهم فى قصر العروبة فى 25 نوفمبر 1981 بدأ مناخ جديد غير المناخ الذى خلقه السادات، وانتهى باعتقال كل رموز المعارضة والنخبة السياسية والحزبية والدينية واكتمل باغتيال السادات فى 6 أكتوبر 1981.
جاء مبارك بعد أن كان نائبًا للرئيس فكان شاهدًا ويريد أن يتعلم ويكتسب خبرة سياسية خاصة أن موقع نائب الرئيس لم يكن حلمًا ولا تطلعًا لمبارك، فقد كانت كل تطلعاته أن يكون سفيرًا لمصر فى لندن مثلًا، وكان السادات يحاول إكساب مبارك الخبرة حتى أنه كلف الدكتور رفعت المحجوب أن يعد له مجموعة من الأساتذة فى كل التخصصات «سياسة، اقتصاد، تاريخ، جغرافيا» إلخ، كما أنه، وهو الأهم، أن مبارك كان قد عاش عن قرب الأحداث والتصعيدات والمواجهات التى أدت إلى ذلك المناخ المتوتر، بل كان بجوار السادات وقت الاغتيال وأصيب فى يده، حتى إنه حينما استقبلنا فى قصر العروبة كانت يده موضوعة فى رباط طبى نتيجة تلك الإصابة، هذا جعل مبارك يفتح صفحة جديدة مع المعارضة بشكل عام خاصة أنه كان يعتبر أن عودة سيناء هى المحك المهم له الذى سيصبح بداية الشرعية الجديدة، ولذلك كان يقدم نفسه فى شكل اقرب إلى مواطن الطبقة المتوسطة، فكان يرتدى البدلة الصيفى إنتاج مصانع المحلة ورفض أن تقوم زوجته بأى أدوار علنية، وكان دائمًا يتحدث عن نظافة اليد، حيث إن الكفن لا جيوب له، هذه هى الصورة التى حاول مبارك أن يقدم بها نفسه فى إطار مغاير للسادات الذى كان يعتز بأنه أحد أشيك الرجال عالميًا.
وفى فبراير 1982 عقد المؤتمر الاقتصادى حيث كانت دائمًا المشكلة الاقتصادية تتمثل فى عجز الموازنة، وقد حضر هذا المؤتمر كل الرموز السياسية والحزبية والاقتصادية من المعارضة ومن الموالين للنظام، كرسالة للجميع بأن النظام سيستمع لكل الآراء، لذا كان مبارك يجتمع مع زعماء المعارضة ومع أحزاب المعارضة، كل حزب على حدة، كنوع من وضع شكل للعلاقة بين السلطة والمعارضة، كما أنه بعد أن افرج عن الاستاذ محمد حسنين هيكل مع زعماء المعارضة، كان قد دعى هيكل لإفطار عمل بهدف الاستماع إليه كرمز سياسى كان له دور بارز فى عهد عبدالناصر والسادات، قبل الاختلاف مع الأخير، هنا وفى هذا الإطار، وعلى تلك الأرضية حاول مبارك أن يعطى فرصة للتعبير السياسى للمعارضة والأحزاب، حيث كان لكل حزب جريدة حزبية أسبوعية تعبر عن برنامج وموقف الحزب، فكانت جريدة الأهالى لحزب التجمع والوفد لحزب الوفد والشعب لحزب العمل والأحرار لحزب الأحرار. ولما كان مبارك يتصف بالتلقائية فى كثير من الأحيان كان يعلن لرموز الأحزاب عند الاجتماع معهم أن لهم أن يبدوا آراءهم بحرية عدا الحديث عن أسرته وعن القوات المسلحة.
هذا هو المناخ الجديد الذى بدأ به مبارك رئاسته وأتاحه للنخبة التى يمكن أن نقسمها إلى عدة أنواع من النخب وهى النخبة السياسية والحزبية المعارضة، النخبة المرتبطة بالسلطة بعضويتها فى الحزب الوطنى الديمقراطي، النخبة الممثلة فى التوجه الدينى الإسلامى والمسيحي، حيث إن هذا التوجه حتى إن لم يكن له صفة قانونية إلا أنه له تواجد فى الشارع، حتى إنه كان يملك التأثير المباشر وغير المباشر أحيانًا فى اتخاذ القرار، وتمثل هذا الصنف من النخبة فى تيار الإسلام السياسى «الجماعة الإسلامية، جماعة الإخوان المسلمين» ولما كانت الجماعة الإسلامية لها ممارسات إرهابية منذ أواخر عهد السادات وصولًا لاغتياله، فكانت العلاقة بين نظام مبارك وهذه الجماعة لا تأخذ خطًا سياسيًا مباشرًا، هذا غير جماعة الإخوان التى قدمت نفسها بديلًا لمجمل تيار الإسلام السياسى الذى اتصف بالعنف، على اعتبار أن «الجماعة تنبذ العنف ولا تؤمن به» أى أنها فى خندق واحد مع النظام فى مواجهة تيار العنف، أما النخبة الأخرى المسيحية، إذا جاز هذا التعبير، كانت تتمثل فى علاقة النظام بالكنيسة، أى العلاقة مع شخصية البابا شنودة الثالث، حيث إن البابا والنظام اختصر المصريون المسيحيون فى شخص البابا، زاعمًا أنه يمثل الأقباط دينيًا وسياسيًا، وبلا شك أن مبارك ومستشاريه أمام هذه الخريطة لم يكن يريد أن تتكرر الأحداث والمواجهات التى ختمت عهد السادات وتسلمها مبارك، خاصة أن مبارك كان يعلم أن الصراع بين السادات والبابا شنودة كان صراعًا شخصيًا يريد كل منهم أن يثبت ذاته من خلاله، وكان ذلك، وظل بعد مجيء مبارك فى ضوء إعلان التدخلات الأمريكية الخارجية بحجة حماية الأقلية القبطية المضطهدة، حسب زعمهم، إضافة إلى أن أمريكا كانت قد استمرأت لعبة استغلال زيارات رئيس مصر إلى أمريكا لتوجيه الاتهامات خاصة ممن يسمون بأقباط المهجر، ولا ننسى أنه قبل التحفظ على البابا واغتيال السادات كان الأخير قد اتهم البابا بأنه أوعز للأقباط للإساءة إليه عند زيارته لأمريكا فى أغسطس 1980، وكان ذلك من ضمن الدوافع لقرار التحفظ، ونستكمل فى المقال التالى بإذن الله.