تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
قبل نحو خمسة عشر عامًا جاء صوتها عبر الهاتف معاتبًا في حدة لم تستطع أن تخفيها: حضرتك مستريح لما تكتبه وأنت تحلق بسطورك في تنظيرات النخب، بينما نحن نعاني من صغار كبار الموظفين المنحوتين على جدار التعصب، وكتائب التطرف التي تستهدفنا؟! متى تنتبه إلى ما يحدث عندنا في الصعيد، في بلدك التي تنتمي لها جذورك؟!
كنت وقتها أكتب مقالأً أسبوعيًّا فى جريدة الأخبار في صفحة “,”الرأي للشعب“,”، التي يحررها ويشرف عليها الأستاذ عبد الوارث الدسوقي، الذي ظل محاربًا عنيدًا جَسورًا في بلاط صاحبة الجلالة رغم شيخوخته، الله يرحمه، وإليه يرجع الفضل في دخولي إلى مجال الصحافة العامة عام 1996، واقتحام دوائر حمراء على مستويات متعددة، شهدت معارك وجدلاً واسعًا.
لم أستطع أن أقاطع محدثتي حتى انتهت من كلامها، وبعد يومين كان عنوان مقالي المنشور بالجريدة، نقلاً عن توصيفها لمعاناة أسيوط وقتها: “,”صغار كبار الموظفين المنحوتين على جدار التعصب“,”، عنوان طويل نسبيًّا لمقال صغير، ورغم سطوره القليلة فقد تصدر الصفحة.
الحكاية أن للأقباط في مدينة أسيوط القديمة كنيسة أثرية باسم “,”القديس أبادير وأخته إيريني“,”، تعود إلى القرن الخامس الميلادي، على مساحة 1400م2 تقريبًا، لم تحتمل جدرانها زلزال 1992؛ فتهاوت، ولم يبق منها إلا مساحة تقل عن المائتي متر مربع، كانت تقام فيها الصلوات لحين استخراج رخصة إعادة البناء، وقد صدرت بالفعل.
وعند الشروع في البناء؛ إذ بالشرطة تلقي القبض على المقاول والعمال ومسئولي البناء،.. لماذا؟؛ لأنهم خالفوا اشتراطات البناء، بحسب تقرير الأمن!!.. كيف؟ كان رأي الأمن أن الرخصة صادرة عن المساحة التي تقام فيها الصلوات فعليًّا.. وماذا عن الباقي؟، قالوا: حرم للكنيسة.. يعني حوش يا سيد، هكذا يكون المنطق: كنيسة 200 متر، و“,”حوش“,” 1200 متر..!!.
المهم جاءت صحيفة الأخبار في اليوم التالي مباشرة تحمل خبرًا على صفحتها الأولى بأن السيد محافظ الإقليم قد أصدر أمرًا بالبناء على كامل الأرض بعد اطلاعه عل ما نشر بالأمس.
لم تنته الحكاية، فقد قدر لي أن أزور أسيوط بعد شهور وألتقي بمطرانها الجليل، كان انطباعي المباشر أن الزمن قد عاد بي إلى القرن الرابع وأقف أمام واحد من قديسيه في عمقه وروحانيته وأبوته، في نهاية اللقاء سألني: ألا تود زيارة الكنيسة التي كتبت عنها؟، هناك وجدت نفسي أمام صرح، أو قل حصن، جدرانه كلها حوائط من الخرسانة المسلحة، والعمل يجري في تشييدها على قدم وساق، عدت لأشكره، ومع تساؤل عن السرعة والخرسانة، قال وكأنه يقرأ الزمن ككتاب مفتوح: لا أضمن ما سوف تجيء به الأيام.
تذكرت البناء التقليدي داخل الأديرة التاريخية، حيث يمثل “,”الحصن“,” أحد معالمها الثابتة، وهو مبنى من ثلاثة أدوار ليس له باب للدخول من الدور الأرضي، بل يتم الدخول إليه عبر ممر يربطه بالدير من أعلى سطح الدير (كوبري)، وهو متحرك على محور أسطواني، ويتم رفعه بالحبال من داخل الحصن؛ فلا يقدر مهاجمو الدير من عصابات الصحراء اقتحامه، ويضم دوره الأول مخزنًا للغلال والقوت التقليدي للرهبان، والثاني حجرات (قلالي) لسكنى الرهبان، بها فتحات صغيرة للتهوية تضيق من الخارج وتتسع بالداخل، ودوره العلوي كنيسة صغيرة باسم رئيس الملائكة ميخائيل، كرمز للحماية كما كلفه الله قديمًا، ويمكن الحياة بداخل الحصن لشهور حتى تنجلى غزوة البرابرة وقطاع الطرق.
قفزت حكاية أسيوط وحصن الدير من الذاكرة وأنا أتابع هوجة الاتهامات الموجهة للكنيسة، من بعض المتصدرين للمشهد السياسي ومحتليه، بأن الكنيسة صارت مستودعًا للأسلحة والذخيرة، يلوكها كل من هب ودب، ووجدت لها مستقرًا عند من يملكون مفاتيح المعلومات وأدوات التنصت والاستقصاء وربما القرار، هي عند البعض تتردد وفق ثقافة النقل، وعند البعض تنطلق بشكل ممنهج يرونه مدخلاً مناسبًا لتبرير استهداف الأقباط؛ وصولاً إلى إقصائهم وحتى إجلائهم، بعد استنفار العامة وحشدهم؛ سعيًا لتطهير الوطن منهم.
لكنها في كل الحالات تكشف عن جهل مطبق بثقافة الأقباط وتراثهم، وتصح هنا قاعدة أن المرء عدو ما يجهل. فما بالك عندما يتحالف الجهل مع العمد؟.
نعم لدينا ذخيرة وسلاح، كل ما تركه آباؤنا القديسون من آثار نحسبه ذخيرة، حتى رفاتهم، والمعين الذي لا ينضب تلك المائدة التي احتفظت بها الكنيسة، والتي أشار اليها القرآن الكريم حين طلبها الحواريون من السيد المسيح كآية تثبت إيمانهم فكانت لهم، وانتقلت لنا عبر الأجيال في سر القربان المقدس، هي ذخيرتنا الكبرى، بل ولدينا أوامر صريحة بحمل السلاح ليل نهار وفي وضع الاستعداد، بل ولدينا وصف تفصيلي لملابس الحرب بنص الإنجيل: أخيرًا يا إخوتي تقووا في الرب وفي شدة قوته، البسوا سلاح الله الكامل؛ لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات. من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا، فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق ولابسين درع البر، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام، حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة، وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله (الرسالة الإنجيلية إلى كنيسة أفسس).
ويتاكد المعنى في تعليمات القيادة الإنجيلية في نص آخر: في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام، في طهارة، في علم، في أناة، في لطف في الروح القدس، في محبة بلا رياء، في كلام الحق، في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار (الرسالة الثانية في الإنجيل لكنيسة كورنثوس).
على أن الأمر يتطلب اعتذارًا واجبًا يقدم للمصريين المسيحيين (الأقباط) من كل من روَّج أقاويل تحوِّل الكنائس والأديرة إلى ترسانات أسلحة، بدءًا من مرشح الرئاسة السابق، الذي سحب تصريحاته بعد أن روج لها، ثم يعود سيرته الأولى على قناة الجزيرة (8 يونية 2011)، ليزيد أن الكنيسة ببورسعيد تهرِّب سلاحًا عبر السفن من إسرائيل، هكذا، ووصولاً لسيناتور بمجلس الشورى المصري يعيد ترديد هذا اللغو وكأنه يستنكر القول به، وهو يتساءل عن أسوار الكنيسة العالية، والتي يراها بعض من المسلمين محل ريبة وكونها تحصينات لإخفاء شيء ما.
ربما نكون بحاجة إلى تأكيد ما هو مؤكد.. لمن لهم آذان ويسمعون.. أن الأقباط سيظلون حائط الصد ضد محاولات تفتيت الوطن، وهم الرقم الذي لا تستقيم بدونه المعادلة الوطنية المصرية.