كثيرا ما يوجه إلي سؤال: تري ما هي أهم خصائص الشخصية اليهودية؟ و تكون إجابتي دائما هي أنه استنادا لتراث علم النفس بفروعه المتعددة لا يمكن الحديث عن "شخصية يهودية"، و لقد قامت أطروحتي للدكتوراة والتي كانت عن "الشخصية الإسرائيلية: الأشكنازيم" علي نفي مقولة أن لليهود شخصية قومية ثابتة رغم تباين التاريخ و المكان بالنسبة للجماعات اليهودية التي تتعدد انتماءاتها القومية لما يزيد عن المائة، و لا يقتصر الأمر بالنسبة للشخصية القومية علي ما يتعلق باليهود وحدهم، فبنفس المعيار يستحيل الحديث عن "شخصية إسلامية" أو "شخصية مسيحية".
ونشهد اليوم في خطاباتنا السياسية تصاعدا ملحوظا لتعبير "الشخصية اليهودية"؛ و ربما ارتبط ذلك بما تشهده بلادنا من تصاعد الحديث عن هوية مصر " الإسلامية السنية"، و ما نشهده في إسرائيل من تكريس لمفهوم الدولة اليهودية، بحيث يصبح الحديث في مجمله متسقا متكاملا لا يثير تعجبا.
وإذا تركنا جانبا قضية دين الدولة كقضية كانت وما زالت مثارا للجدل السياسي مما يخرج عن نطاق تخصصنا الدقيق؛ فإن الحديث عن "شخصية الجماعة" أمر يحتل مكانة محورية في تخصص علم النفس الاجتماعي و السياسي.
ورب من يتساءل: تري و ماذا عن ذلك الكم الهائل من الكتابات عن شخصية يهودية أو مسيحية أو مسلمة؟ إنها –في حقيقة الأمر- أحاديث عما ينبغي أن تكون عليه شخصية الفرد من خلال استقراء للنصوص المقدسة و استنباط الملامح السلوكية التي ينبغي أن تميز أتباع تلك الديانات، وبطبيعة الحال فإن القارئ المدقق لمثل تلك الكتابات سوف يكتشف بسهولة أنها تختلف بل تتناقض باختلاف انتماءات القائلين بها، فيتأرجح تصور"شخصية النحن الدينية" من غاية الاكتمال الحائز علي كافة الفضائل، إلي "شخصية الآخر الدينية" التي تحوي كل صفات الانحطاط و الرذائل، بعبارة أخرى فإن ملامح "الشخصية اليهودية" مثلا في خطابنا تختلف تماما إلي حد التناقض عن الحديث عن ملامح تلك الشخصية من وجهة نظر من يروجون لفكرة تميز العرق اليهودي.
وليس من شك في أن مثل تلك الكتابات تلعب دورا لا ينكره أحد في تماسك الجماعات و تمايزها عن الآخرين "الأشرار"، و كذلك في طرح هدف سلوكي مثالي لأفراد الجماعة. و غني عن البيان أن هذه التصورات لا بد وأن تقوم علي التعميم أو بالتعبير العلمي علي ترسيخ ما يعرف بالصور النمطية.
وفي المقابل فإن العلوم الاجتماعية جميعا و ليس علم النفس فقط تنفر كأشد ما يكون النفور من المثاليات و التصورات النمطية الجامدة، ولا تقيم معرفتها الموضوعية علي شيء من ذلك قط، بل تقوم أساسا علي الرصد العلمي الدقيق لسلوك البشر في عالم الحياة الواقعية.
إن نظرة متأنية إلى أية جماعة إنسانية -بالمعنى العلمي لمصطلح الجماعة- تكشف عن خاصتين بارزتين:
أولا:
إن بين أفراد تلك الجماعة قدرًا لا يمكن التغاضي عنه من الاختلاف في كل نواحي التكوين النفسي و الخلقي بحيث إننا لا يمكن أن نجد -في أية جماعة إنسانية- شخصين متماثلين تمام التماثل من حيث تلك التكوينات, حيث يختلف أفراد الجماعة عن بعضهم البعض في كل شئ تقريبًا: القدرات العقلية، وخصائص الشخصية، والخصائص الجسمية والاتجاهات والقيم إلى آخره.
ثانيا:
إن بين أفراد تلك الجماعة قدرًا لا يمكن التغاضي عنه من التشابه في كل نواحي التكوين النفسي أيضا, بمعنى أننا لابد واجدون قدرا مشتركا بين كافة أفراد تلك الجماعة فيما يتصل بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وإن كان ذلك القدر يتفاوت من جماعة إلى أخرى كما يتفاوت أيضا من فرد إلى آخر من بين أعضاء نفس الجماعة.
هاتان الخاصيتان تتوفران في كل الجماعات الإنسانية دون استثناء, و لعل الخاصية الثانية - أعنى خاصية التشابه - هي الأجدر بالتوقف أمامها فيما يتصل بموضوعنا، و يكاد كل علماء النفس أن يجمعوا على أن ذلك التشابه في العادات والتقاليد والقيم واتجاهات الرأي العام وما إلى ذلك إنما هي جميعا أمور يكتسبها المرء من بيئته الاجتماعية عبر ما يعرف بعملية "التنشئة الاجتماعية", بمعنى أن المجتمع "يعلم" أبناءه عبر توالي الأجيال ما يود غرسه فيهم من عادات وتقاليد وقيم واتجاهات وما إلى ذلك, مما يعنى مباشرة استحالة أن يكون ثمة تشابه في الخصائص النفسية بين أفراد جماعة بشرية معينة إلا بقدر تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحيطة بتلك الجماعة.
اليهود إذن –شأنهم شأن غيرهم من أصحاب العقائد الدينية- يتباينون في قراءتهم لعقيدتهم, ويتباينون في أنماط سلوكهم و أفكارهم و قيمهم و أخلاقهم بتباين انتماءاتهم القومية، و تباين تواريخهم الاجتماعية الثقافية السياسية بل و الشخصية أيضا؛ فمنهم العلماني و المتدين؛ و منهم المتطرف و المتشدد و الوسطي؛ و منهم المسالم و المحارب.
خلاصة القول إن أحدا لا يستطيع أن يضع جميع من ينتسبون لدين معين في سلة سلوكية واحدة, أو أن يتصور أن لهم شخصية قومية واحدة، حتى لو كان ذلك الدين هو الدين اليهودي.