ومن هذه الخلفية الشاملة، طرح توينبى رؤيته عن الثقافة الغربية الحديثة إلى ما بعد الحدود المألوفة. وخلال دراسته التذكارية، توقف فى أغلب الأحيان للتفكير فى المجتمع ومستقبله المحتمل فى ضوء نتائجه التاريخية.
وأشار إلى أنه يمكن إرجاع الصعود الحديث للغرب إلى التقدم التكنولوجى غير المسبوق، مما أعطى المجتمع هيمنة وسطوة على البشر عبر ثلاثة قرون. بيد أنه منذ الحرب العالمية الأولى، فقدت الثقافة هذه الهيمنة بسرعة، لا فى مجال التقنية وحدها، بل فى المجال العسكرى والسياسى والاقتصادي. لم تكن مشكلة الغرب مساوية أخلاقيًا لتقنيته. وبهذا المعنى «لم تظهر الحضارة الغربية جانبًا مشرقًا فقط وإنما جانب مظلم، وأصبح هذا الجانب المظلم فى عصرنا، أكثر إظلامًا من البقعة الأظلم على صفحات التاريخ الغربى فى العصور الوسطى». وفى الوقت الذى أكمل فيه توينبى دراسته عام ١٩٦١، أعلن أن الغرب قد تخلى عن زعامة العالم.
ركز سوروكين بشكل رئيس فى دراسته الهامة للتغيير الاجتماعى والثقافى على الثقافات الأوروبية لأسباب مهنية. وكعالم اجتماع، كان يحتاج إلى معلومات ثابتة، وقد عرضت الثقافات اليونانية - الرومانية والغربية سجلات دقيقة أكمل وأكثر من الثقافات التاريخية الأخرى. كما استمدت «المحركات» من تواريخ ثقافات مصر، والبابلية، والهندوسية، والصينية والعربية. وعلى الرغم من ذلك لم يقصد بالعمل أن يكون عالميًا بل يطبق بكل ثقة على الثقافات المولودة فى المنطقة الأوروبية. وفى حين احتضن توينبى التاريخ الكامل للجنس البشرى المتحضر، حلل سوروكين الثقافات الغربية بشكل أكثر تركيزًا عن أى باحث من قبله أو منذ ذلك الحين. تتضمن «المحركات» فى الأساس الإبداعات الثقافية المهمة لليونان وروما القديمة، والثقافة الغربية اللاحقة، وتتراوح ما بين موسيقى ترباندر، التى يعود تاريخها إلى حوالى ثمانمائة سنة قبل زمن السيد المسيح، إلى الأنشودة البسيطة الغريغورية الروحية الثرية فى عصور القرون الوسطى، حتى السيمفونيات الصاخبة لريتشارد فاجنر.
وسهل المهمة أسلوب سوروكين فى الكتابة؛ مع أنه باحث ضليع، فلم يكن لديه طول أناة للغموض أو الرطانة، وكان اختياره للكلمات دقيقًا، وعباراته قوية وواضحة، والتأثير العام هو نثر مقروء بصورة بارعة. واستخدم أحيانًا المصطلحات التقنية، ابتغاء للدقة أو تعميقًا للبصيرة. وهكذا يجد القارئ فى الصفحات الأولى من العمل أشياء ثقافية، تكاملًا سببيًا ووحدة منطقية ذات مغزى. وعلى الرغم من ذلك كان سوروكين يوضح دائمًا لغته، ومن السهل إدراك أفكاره الأساسية. وكما فعل شبنجلر وتوينبى تجاوز سوروكين الموانع الأكاديمية التقليدية التى تقسم أحد مجالات المعرفة عن مجال آخر. وقد عمل على الفور كعالم اجتماع، ومؤرخ، وعالم نفساني، ومنطقي، وفيلسوف.