الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

«128»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِنرَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا* فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا».. شقّ صوته الصعيدي الرخيم.. الشبيه بماء سيل حط من علٍ.. ظلام الثلث الأخير من ليلة انتصفت شهر أكتوبر.. أدفأ صوته البرد الخريفي الزاحف بشراسة على من في المنزل.
تهاوى إلى قلبه ذلك الصوت الذي كان يسمعه كل يومٍ في الوقت الذي يصطفى الله بعض عباده – الذين لم يكن منهم - وانقطع منذ شهر.. وهو متدثر بـ«لحافه» القطني كأنه حلم.. فتح عينيه ليستمر الصوت المتردد في جنبات المنزل.. ألقى غطاءه واتجه مسرعًا إلى حيث «مصلى» قيام الليل للرجل الصالح في الحجرة النائية.
كان آخر الواصلين.. جميع من في البيت.. أيقظتهم قراءة الرجل الصالح.. الأم والإخوة جميعًا باستثناء واحد منهم كان في نُزل الزوجية.. وآخر تفرض عليه «فريضة الدم البعد والنوى».. مع وصوله صمتت التلاوة، وعاد زحف برد ليل الخريف القارس.. شُخصت أعينهم جميعًا إلى مكانه.. حيث لم يكن.. تذكروا جميعًا أن الله اصطفاه إليه منذ شهر ونيف من الأيام.
لم يكن قيام الليل، السمة الوحيدة في ذلك الرجل الصالح.. الذي كان أصل العنقود، ورابطته التي تمنع حبّاته من الانفراط والسقوط على الأرض حبة حبة إلا أنه انفرد على الأرض بعد رحيله.. كان رحمه الله موظفًا بالإدارة العامة للمعامل المركزية بوزارة الصحة.. بشارع الشيخ ريحان.. كان يصلي الفجر ويخرج ليستقل حافلة تحمل رقم 128 – زاد الرقم بلا قيمة فعلية ليصبح حاليًا 828 - تبدأ خط سيرها من مساكن عين شمس وتنتهي في ميدان التحرير، والعكس.
جمعه لقاء مع صديق إلى جوار عمله كمدرس يدرب الكاراتيه.. كان صديقًا صالحًا.. اجتمعا صدفة في انتظار القادم العزيز 128.. كحال العشرات غيرهم.. الكسل يغلب عليهما وعلى باقي المنتظرين.. إلا أنه كسل ظاهر يخبئ تحفزًا لظهور الحافلة.. التي يتسابق الجميع ليتمكنوا من الفوز بالجائزة الكبرى.. مجرد كرسي فارغ يجلسون عليه خلال الطريق.. لا يفرطون فيه حتى نزولهم.
افتتح صديقه الحوار.. منبهًا له بضرورة السرعة واليقظة مع مهارة يعوزها الحظ للوصول إلى الحافلة بين المتسابقين، مطالبًا بأن من يصل أولًا يحجز لصاحبه إلى جواره.. ساد الصمت هُنيهة من الزمن.. ثم قال صاحبه: من أعاجيب 128 أن هناك رجلًا.. شديد بياض الشعر واللحية.. متوسط الطول والجسد يميل إلى النحافة.. يخترق الجموع بسرعة عجيبة ليكون أول الفائزين بركوب الحافلة واعتلاء كرسي عليها.. لا يغير كرسيه.. الكرسي الداخلي إلى جوار النافذة فوق الإطار المزدوج للصف التالي للباب لا الصف المختبئ بالسائق.. لا يغير كرسيه أبدًا فصار علمًا وحكرًا عليه.. لم تخذله صحته يومًا، رغم آثار انتصار الزمن عليه الذي ظهر في ملامحه وعلى شعر رأسه ولحيته الأبيض.. نحرص فقط على ركوب الحافلة.. وإن ابتسم لنا الحظ فزنا بأي كرسي.. إلا هو يأبى إلا ذلك الكرسي.. فتطوى الأرض تحت قدمه.. ويرتفع جسده في قفزة كبيرة عالية يشهق لها من يلاحظها.. ليكون أول من يصل إلى الحافلة وأول من يصل لمبتغاه.
لم يكن ذلك فقط موضع العجب في ذلك الرجل.. فبعد أن يجلس يُخرج من حقيبته الجلدية المتدلية ناحية خصره اليمنى.. الملقى ذراعها على كتفه الأيسر.. نظارته الطبية ومصحف كبير يبدأ فيه بالقراءة بصوت خفي وطيد.. يزيد رويدًا رويدًا.. ليعلو صوته الذي تظهر فيه بوضوح لكنة صعيدية من أقاصي الجنوب لا تخطئها أذن من محبي القرآن.. تلك اللهجة التي تعطي بطبيعتها براعة لأهل الجنوب في قراءة كتاب الله.. ويتردد صوته في الحافلة كأنه خارج من مكبرات صوتية توصله لنهاية الحافلة.. فيستمع كل من في الحافلة، وكأن على رؤوسهم الطير.. وبعد هنيهة تتأكد أنه لا يقرأ من المصحف.. فالصفحة لا تتبدل.. رغم استمراره في القراءة، وكذلك بصره لا يتبدل عنها.
أكمل ضاحكًا.. ذلك الرجل يا صديقي رغم كبر سنه الواضح.. إلا أنه نموذج رائع لذلك الجيل الذي تعلم جيدًا ما لم نتعلمه أو نصل إليه.. وأدرك القرآن كأنه يراه ساعيًا على الأرض.. وذاب فيه عشقًا وقراءة كأنه يصف محبوبه.. ذلك الجيل الذي تغذى جيدًا، واحتفظ بصحته ورشاقته وقوامه رغم سنوات عمره الكثيرة، ونيل الزمن من.. فلم يُسابقه يومًا شاب ولا كهل ولا عجوز.. حتى أنا مدرب الكاراتيه بحزامه الأسود ذي "الدان" السادس.. لم أتغلب عليه يومًا.
سنوات يا صديقي أصاحب ذلك الرجل وأتقرب منه.. وأترك ما أفوز به من جائزة أجلس عليها.. لأقف أمامه استمع إليه.. حرصت كثيرًا على أن أتودد إليه أو أتعرف عليه ولم أفعل.. لأنه في ظني ما كان معنا.. صدق فيه قول رابعة العدوية «فالجسم مني للجليس مؤانس.. وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي».. فلم يكن معنا.. رغم وجوده.. كأنه يرى كتاب الله أمامه فلا يرى غيره.. لا يهمه من جلس أو وقف أو تشاحن أو تشاجر أو تعارك أو تباكت أو استظرف أو استطرف.. فكنت استحى أن أخذه مما هو فيه ولكم وددت أن أكون معه.. إلا أنني منذ شهرين يا صديقي لم أصادفه.. تغيب على غير العادة.. لا أدري لماذا؟!
أجابه: مات.. اختاره الله، واصطفاه وقت اصطفائه له في الثلث الأخير من الليل.. لقى ربه وهو ملاقٍ ربه في قيام الليل منذ شهرين رحمه الله.
سأله: هل تعرفه؟.. أجابه بصوتٍ خنقته دموعٌ حاول حبسها فانفلت أثر كتمانها في صوته.. بلى هو أبي.. لفظها وتركه عائدًا من حيث أتى، دون أن يدخل في سباق الحصول على جائزة الكرسي.. هائمًا على وجهه في الطرقات.