في زمن ما كان الفقر يحكم القرى.. أجيال "الهوت سبوت" لم تر ذلك.. لكنه منقوشا في ذاكرة أجيال "تريك تراك ونطة الإنجليز ثم مؤخرا شد الكوبس كهربا" ولأن المدنية لم تكن احتلت القرى بعد كان هناك متسعا لنا كأطفال أن نصنع الحواديت التي سنظل طيلة حياتنا نسردها ونضحك ويتندر عليها جيل وراء جيل.
من بين تلك الحكايات التي طلت في رأسي.. حكاية صاحبنا سيد التي وقعت قبل 25 سنة حينما اشتهت نفسه "البطيخ" في أول يوم رمضان.. وكانت حينها البطيخة لا تقل ثمنا ولا أهمية عن "تورتة" من محل شهير الآن.. وهذا ليس مبالغة إذا عرفتم أننا كنا نشتري الثلج بالقطعة من عند خالتي "أم عماد".
صديقنا "سيد" ذهب إلى عم عبد الواحد ومعه "قرش صاغ" قبل مدفع الإفطار يطلب منه بطيخة.. نهره عم عبد الواحد قائلا: "القرش ده تروح تديه لأمك تحوشه لك ياض".. ألح عليه صديقي أن يزن له بطيخة صغيرة ثم ترجاه أن يعطيه شقة ثم استشاط غضبا وانصرف من أمامه ومر علينا جميعا نحن الخمسة يؤكد علينا التجمع بعد صلاة التراويح عند عشة الخالة نعيمة، في الموعد كنا هناك وكان "سيد" يضع الخطة والتي مفادها أننا سنسرق بطيخ عم عبد الواحد، اختلفنا على رفض وقبول السرقة في رمضان، لكنا استندنا على مقولة أحد المشايخ حينما قال: "لو مريت على غيط ونفسك في حاجة خد بس واحدة فقط".
كانت خطة "سيد" محددة بالتوقيت فعم عبد الواحد ينام الساعة 12 في منتصف الليل سنتوزع نحن الخمسة على مسافات وسيدحرج "سيد" البطيخة على الأرض وندفعها لبعضنا حتى تصل لصديقنا الأخير الذي يضعها في "غبيط الحمار" ويذهب به مسافة قصيرة إلى أقرب "غيط"، كنا قد اتفقنا على ست بطيخات، لكن الحماس أخذنا حتى أننا دحرجنا شادر البطيخ بأكمله، كان عم عبد الواحد يتقلب في نومته فنلتقط أنفاسنا ونتأهب للجري، فيطلق "شخيره" وكأنه كان يطمئننا فنعاود "الدحرجة" لم نكن نتخيل أننا سنسرق الشادر كاملا إلا بعد ما رأينا صديقنا "سيد" يقف منتشيا، أشرنا إليه بالانصراف لكنه وقف متسمرا ينظر إلى "البطيخة" التي تحت رأس عم عبد الواحد، أشرنا إليه برفض الفكرة فتلك مغامرة لن تفلح، بعد مداولات أيده محمد صديقنا وعجبته فكرة "سيد"، وقفنا بعيدا متأهبين بينما سار سيد على أطراف أصابعهما حتى وصلا إلى رأس عم عبد الواحد والبطيخة، وكانت الخطة أن يرفع "سيد" رأس عبد الواحد قليلا ويأخذ محمد البطيخة ويضع بدلا منها "قالب طوب" لكن خطأ وقع في التنفيذ ف"سيد" ترك رأس عم عبد الواحد وجرى فارتطمت بقالب الطوب فاستيقظ يتأوه ينظر حوله فلم يجد "البطيخ"، كنا قد اختفينا عن الأنظار وجلسنا في "الغيط" بجوار البطيخ نسمع صراخ عبد الواحد، ونحن نشق البطيخ واحدة تلو الأخرى حتى امتلأت بطوننا ولم نأكل سوى ست بطيخات، تحسسنا خطانا لنتابع الأحداث فإذ بالقرية كلها رجالها ونسائها عند دوار العمدة وعبد الواحد يصرخ ويهيل التراب على رأسه والعمدة يضحك حينا ويواسيه حينا ويشخط في الخفراء: "هاتولي عيال البلد بحالها"، أصابع الاتهام كلها كانت تشير نحونا ولم نجد مناص سوى الظهور والاعتراف بالجريمة وحكى سيد الحكاية كاملة والعمدة يضحك ويقول: "يا ولاد الشياطين مكنش لها لزمة البطيخة اللي تحت راسه" تحولت الساحة أمام دوار العمدة إلى حفلة من القهقهات لم يقطعها إلا سؤال العمدة: "كلتوا كام بطيخة يا عيال؟" دفع العمدة لعبد الواحد ثمن ال6 بطيخات بعدما أخبرناه على مكان بقية الشادر، وبعد أن وجه نصيحة لعبد الواحد: "لو إديتهم بطيخة قبل الفطار كانوا هم اللي حرسوا لك البطيخ يا فالح"، ومن ذلك الحين وأول ما يفعله عم عبد الواحد هو تقطيع بطيخة لمن حوله من الصغار".