الإحساس بـ «الزمن»، يتنفس فى أعمال نجيب محفوظ جميعها من أولها حتى آخرها. قد يكون إحساسًا بتاريخ محدد، وقد يكون أحيانًا أخرى إحساسًا بـ «زمن» اجتماعى متحرك، وقد يكون أحيانًا ثالثة إحساسًا بـ «زمن» إنسانى عام. ومن هذا الإحساس بـ «الزمن» ينبع الإحساس بالتطور المتصل فى أعماله جميعًا. وإذا كانت النظريات العلمية تبرهن على أن حركة الأرض حول محورها، ثم حول الشمس، هى التى تمنحنا الإحساس بمرور «الزمن»، ولولا هذه الحركة، ما عرفنا شيئًا اسمه «الزمن»، وإذا كانت قياسات «الزمن»، - وفقًا للعلم - ليست فى حقيقة الأمر إلا أماكن محددة فى الفضاء. فالفجر والصبح والضحى والظهيرة والغروب والمساء ليست إلا زوايا محددة بيننا وبين الشمس، أى أن الأرض تتحرك فى المكان ليكون الزمان، إذا كان ذلك كذلك، فإن الفن لا يدرس «الزمن» بهذا التجريد بل يبلوره من خلال الإنسان نفسه ككائن يشمل الروح والمادة فى آن واحد، وديناميكية الشكل الفنى لرواية «الكرنك» تؤكد أن «الزمن» نسبي.
و«نسبية الزمن» قال بها «أينشتاين»، فنحن لا نستطيع - على المستوى الكونى - أن نحدد المكان الذى وقع فيه الحدث، فالزمن متغير وكذلك المكان، ولا شىء فى الكون ثابت فى مكانه، لأن كل ما فيه يتحرك، ويغير مواضعه وأمكنته. بتعبير آخر أن «هنا» و«هناك» و«الأمس» و«غدًا» و«الآن» هى ألفاظ نستخدمها فقط بالنسبة للإطار الذى نعيش فيه على أرضنا، ولا نستطيع أن نستخدم هذه الألفاظ المحلية والمكانية والزمانية فى كل إطارات الكون. ومن هنا يبدو الخط الدرامى الذى يربط بين أحداث «الكرنك» لم يكن صادرًا عن الشكل الفنى للرواية، بقدر ما كان نابعًا من مفهوم نجيب محفوظ للتاريخ الإنساني.
وقد يكون التطور مجرد تعبير عن الاتجاه التاريخى الزمني، وقد يكون تعبيرًا عن عمق اجتماعي، وقد يكون تعبيرًا عن فعل تاريخي. وقد يقف به عند حدود الوصف التاريخي، وقد ينطلق به إلى التغيير التاريخي، إلى المشاركة التاريخية. وخلال هذا كله، لا يكون أبدًا تاريخًا معلقًا فى فراغ. بل هو تاريخ متداخل مع الجغرافيا الأرضية والكونية. بين الطبيعة والنفس، بين الطبيعة والنفس والمجتمع، بين الطبيعة والنفس والمجتمع والعصر، بين الخاص والعام، بين الجزئى والكلي، يقوم رباط دائم، وصدام دائم فى عالَم نجيب محفوظ. ولذلك فنحن فى هذا العالَم نتحرك بين نفوس، وطبقات ومقتضيات عامة لعصر كامل.
وإذا كان «المقهى» هو «المكان» الذى ضم كل شخوص الرواية، فإن «الزمان» يتعلق بالفترة التاريخية التى عاشتها مصر قبيل النكسة وبعدها، وقد ظهر «الزمان» جليًا فى السرد وعلى ألسنة شخصيات العمل، ويتضح ذلك من خلال تطعيم نجيب محفوظ العمل ببعض الأحداث والحقائق التاريخية التى دلت على «الزمان»، ففترة الاعتقالات التى أصابت مثقفى البلاد من قِبَـل حكومة الثورة كانت على أشدها قبيل النكسة. يؤرخ محفوظ ما حدث على لسان أبطاله، فترد هذه السطور فى روايته:
«ويومًا قال طه الغريب:
- سمعت عن أنباء اعتقالات واسعة.
فوجمنا جميعًا. وقلت:
- ولكن أغلبيتهم تنتمى للثورة.
فقال رشاد مجدي:
- ولكن توجد أقلية مخالفة لا يستهان بها.
وجرى الحديث بيننا تعليقًا على الحدث:
- الاعتقالات فعل مخيف حقًا.
- وما يقال عما يقع للمعتقلين أفظع.
- شائعات يقشعر منها البدن.
- لا تحقيق ولا دفاع.
- لا يوجد قانون أصلًا» (الكرنك، ص ١٨ – ١٩).
لقد تم الإفراج عن كل المعتقلين - بعد الاعتقال الثالث - فى ٥ يونيو ١٩٦٧م، ثم اتضح من خلال ما أفصحت عنه الشخصيات (إسماعيل الشيخ، وزينب دياب ) سر الإفراج عنهم فى ذلك اليوم، إنه يوم وقوع الهزيمة، الذى حسمت فيه إسرائيل الحرب لصالحها فى ست ساعات، وهذا الحدث فى «الزمان» له مدلولاته، وهو أن نجيب محفوظ أراد أن يُظهِر لنا التغير الذى طرأ على العلاقة بين رجال السلطة وبين الشعب، وكيف أن رجال السلطة حاولوا أن يغيروا من سياستهم تجاه الشعب بعد النكسة لكى يضمنوا حماية الشعب ووفاءه لهم وعدم انقلابه عليهم بعد النكسة، وكى يضمنوا أيضًا تأييده لهم ووقوفه بجانبهم حتى يجتازوا هذه المرحلة، وقد نجحوا فى ذلك بالفعل، وهذه الإشارة ما وردت إلا فى سياق السرد الذى كان من شأنه الكشف عن «الزمان».
من خلال قراءة أعمال محفوظ نلتقى بقصاص واقعى ينطلق من نقطة تقع خارج مشاعره الذاتية، وتتقمص الحدث، وتحيط البيئة والعصر والزمان والمكان، ومستوى الشخصيات، ومجرى الأحداث، وتعتمد على إلمام عميق بشروط المذهب الواقعى الجديد، وترتفع فوق التسجيل الآلى الجامد إلى رصد حى خصب واع بلغ به نجيب محفوظ ذروة التطور للمذهب الواقعي. وواقعية نجيب محفوظ لا تقتصر من الحياة على جانبها الاجتماعى فحسب، بل ترى أن الوجه الاجتماعى لا ينفصل عن الوجه السياسي، وهو من هذا الجانب يُعَـد على رأس من عالج القضايا السياسية بوعى ونضج وذوق فني. غير أن واقعية محفوظ تتجاوز الأُطر الوصفية إلى التعبيرات والإيقاعات العميقة التى تتعيّن من خلالها جغرافية الواقع الاجتماعية (الطبقات، المذاهب، أنماط السلوك، العادات...)، والسياسية (عرابي، زغلول، الشيوعية، الإخوان، الناصرية...)، والفكرية (ماركسيون وعبثيون وأصوليون...). إنها باختصار واقعية واقعنا الذى لا يزال حافلًا بالأزمات والآمال المتعثرة، والذى لن نتمكن من قراءته أو تأمله فى نص أدبى أو تاريخى كما نقرأه فى روايات محفوظ.
إذا كانت أحداث رواية «الكرنك»، قد دارت بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ بثلاثة عشر عامًا أو يزيد، وعقب وقوع هزيمة يونيه سنة ١٩٦٧، فإن نجيب محفوظ ذكر فى صفحة ١٠٥ من روايته - على لسان حمزة البسيونى أحد أبطال هذه الرواية - يشير إلى المهام التى يتطلبها الحاضر للخروج من أغلال التخلف وقهر طغيان الحكام وانكسار ومذلة الهزيمة، يقول حمزة البسيونى مخاطبًا رواد مقهى «الكرنك»:
«سأعترف لكم فى الدقائق الباقية لى هنا بخلاصة تجربتي، لقد خرجت من الهزيمة، أو قل من حياتى الماضية مؤمنًا بمبادىء لن أحيد عنها ما حييت، ما هى هذه المبادئ؟
أولًا: الكفر بالاستبداد والدكتاتورية.
ثانيًا: الكفر بالعنف الدموي.
ثالثًا: يجب أن يطّرد التقدم معتمدًا على قيم الحرية والرأى العام واحترام الإنسان، وهى كفيلة بتحقيقه.
رابعًا: العلم والمنهج العلمى هو ما يجب أن نتقبله من الحضارة الغربية دون مناقشة، أما ما عداه فلا نسلم به إلا من خلال مناقشة الواقع متحررين من أى قيد قديم أو حديث». (الكرنك، ص ١٠٥).