«شم النسيم» العيد الفرعونى الذى أتعب البعض لدرجة تحريمهم الاحتفال به ظنًا منهم أنه عيد مسيحى، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة فتح كتاب أو ضغطة زر على الـ«كى بورد». العيد الفرعونى الذى يحتفى بالحياة وجمالها وكل ما يذكرنا بالتجدد والصيرورة والخصب والنماء والجمال، العيد الذى يتشاركه المصريون جميعا مسلمين ومسيحيين ويرتبط بوجداننا، ما يجعلنى أتساءل ألم يتطرق ببال دعاة تحريمه لبرهة أى ذكرى له فى طفولتهم كمصريين؟ أمهاتهم وهن يصنعن فطائر شم النسيم أو «المنجأونة البورسعيدى» أو «البريوش» بشكل عام واضعين البيض المسلوق داخل ضفائر العجين وخبزه بعد ذلك ليخرج ذهبيا شهيا بطعم السكر. والبيض الملون فى كل بيت فى الصباح الباكر، والتفاف الأطفال حول الأم وهى تخرجه من ماء السلق الذى أضافت إليه أوراق البصل لتدهشهم درجات اللون البرتقالى ودرجات الأصفر التى يمنحها الكركم بسخاء، والأخضر الفاتح الذى تمنحنا إياه أوراق السبانخ والخس، والأزرق اللامع المائل إلى الأرجوانى الناتج عن الكرنب البنفسجى والكركدية، أو الرمادى الخفيف الذى تنتجه رؤوس البنجر وغيرها. هذا غير ما تنتجه أياديهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة من لوحات منمنة بـ«الفلو ماستر» والاستيكرات اللامعة، التى يلصقونها على البيض لتضيىء أحلامهم التى تلتف حول لوحة مساحتها قشرة بيضة. هذا إلى جانب الفسيخ والسردين، وانقسام الأفراد بينهما كفريقين كل فى أطباقه التى تزينها شرائح الليمون، وديكورات حلقات البصل والجزر لمزيد من البهجة الملونة، والخس والملانة والبصل الأخضر، والملايين التى تخرج فى الصباح لتصافح الطبيعة وتستقبل الربيع جماعات وأسرات، ضحكات ومسيرات كرنفالية عمرها آلاف السنين، فهل يعرف المحرمون أن أجدادهم الفراعنة كانوا يؤدون نفس الطقوس تقريبا. وكانت مظاهر الاحتفال تقام وسط الحدائق بين الزهور والخضرة وعلى ضفاف النيل، وقد تركوا لنا ما يسجل ذلك فى لوحات كاملة على جدران مقابرهم. صورهم وهم يستنشقون الأزهار ويجلسون جماعات، وبجوارهم الأسماك المملحة والبيض الملون المزركش بزهور اللوتس، تلك الزهرة المقدسة لديهم مرتدين الملابس الجديدة ومهتمين بزينتهم وشعرهم الذى اعتنوا بتصفيفه بشكل واضح. هل يعلمون أن كل تلك المظاهر قد ارتبطت لديهم بمدلول الخصب والحياة والخلق وتجدده وخروج الحى من الميت ناهيك عن البرديات التى تربط الخلق كما تصوروه بالبيضة. ولهذا كانوا يرسمون أحلامهم على البيض فى هذا الاحتفال، ويكتبون أمانيهم عليه ويضعونه فى سلال. وكان اهتمامهم بتمليح الأسماك نابعا من تقديسهم للنيل واهب الحياة «حابى» العظيم، فقاموا بتمليح البورى وكلاب السمك لصنع الفسيخ والملوحة، أما الخس الذى عرف منذ عصر الأسرة الرابعة، فاعتبروه من النباتات المقدسة لأن له علاقة بتكوين السائل المنوى وزيادة حركة الحيوانات المنوية، كما أنه يسهم فى ضبط الهرمونات عند النساء وأيضا عند الرجال، وهو ما أثبته الطب، ولهذا قدسوه وتركوا ما يدل على ذلك فصوروا إله الخصب والتناسل فى مدينة هابو الفرعونية وتحت رجليه أكوام من نبات الخس. كما احتفلوا أيضا بأكل الملانة التى هى ثمرة الحمص الأخضر، وذلك لأنها تشبه رأس الصقر «حورس»، فهى ثمرة دائرية ذات طرف مستدق مقوس يشبه المنقار، كما أن امتلاء هذه الثمار فى هذا الوقت هو سر حملها لهذا الاسم. الأجمل من ذلك كله هو احتفالهم فى اليوم التالى بيوم طهارة القلوب، ذلك اليوم الذى يقومون فيه بالمصالحة بين المتخاصمين ونسيان الأذى، فيقدمون لبعضهم فطيرة مزينة بالفواكه والزهور عربون المحبة والمصالحة. فماذا يزعج فى كل تلك الطقوس لدينا من الوعى ما نستطيع أن نفرق به بين الأسطورة والتاريخ والدين، ولدينا ما هو أعمق من ذلك وهو قدرتنا على انتقاء ما يتماشى مع صيرورة الحياة ولا يقتل رمزيتها التى تؤكد هويتنا وخصوصيتنا، وتؤصل لحضارة وتاريخ عريق لم تستطع البشرية فك رموزها حتى اليوم، كل عام ونحن أكثر انتماءً وكل عام وأطفالنا جميعا يلونون البيض فى الصباح ويرسمون عليه أحلامهم، وكل عام والعائلات والأصدقاء يتشاركون الصحبة والضحك فى الحدائق بين الزهور والخضرة حاملين السلال بما فيها من خير. كل عام ونحن أكثر يقظة وأكثر وعيًا لكل من يحاول النيل من وطننا وطمس هوية مصر.
آراء حرة
"شم النسيم" هويتنا التي لن يقدروا على طمسها
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق