تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
والمعتزلة هي أكثر الفرق الإسلامية حديثًا عن الحرية والعقل والعدل، لكنهم وما أن كان لهم وجهة نظر تقول بخلق القرآن حتى تحولوا بعد تقبل الخليفة المأمون لفكرتهم إلى دعاة افتراس وحشي لمن لم يتقبل رأيهم.
قالوا في البداية أجمل الكلمات؛ بما دفع الكثيرين طوال أزمنة عديدة، وحتى اليوم، إلى امتداح أفكارهم باعتبارها نموذجًا لفكر إسلامي متحرر ومستنير، لكنهم رسبوا في أول امتحان عملي. فهم لم يكتفوا بالهجوم على مخالفيهم، وإنما قرروا استنطاق الصامتين فامتحنوا العلماء والفقهاء، وكل من لم يُجب موافقًا على خلق القرآن يعاقب.. يطرد، ثم يسجن، ثم يعذب، ثم يقتل.
وهكذا تحول الرأي في الدين، وهو رأي إنساني يقبل الصواب والخطأ، إلى مقدس يتعين القبول به وإلا فالتكفير والسجن والقتل. وهنا وعلى يدي المعتزلة حدث تطور خطير جدًّا على الذهن والضمير والأخلاقيات الإسلامية والعربية. فتحول المثقف إلى ببغاء هادئ وشرس، هادئ إذ يردد أفكارًا ومقولات ليبرالية وتقدمية بالنسبة للزمان والمكان، وشرس عندما يطيح بسيفه رأي المخالف.
وهكذا خلق المعتزلة ثغرة في فكر المثقف الإسلامي، ومن ثم العربي، وهي ثغرة تعطيه القدرة على ترديد كلمات ذات مسحة متسامحة وآراء تتبدى متسعة الأفق، وتعطيه في نفس الوقت القدرة على الالتواء، وبذات الكلمات، إلى مساحة النفاق أو العنف.
وعبر هذا التراث المعتزلي وجدنا إسلامًا يتألق كلمات، ثم ما يلبث أن يتحول إلى تأسلم عبر فكرة “,”خلق القرآن“,”، وتكفير كل من لم يقل بها. ما يستتبعه التكفير من أفعال وحشية. فترسخ، وعلى مدى الزمان، نموذج المثقف العربي – الإسلامي الأكثر شيوعًا، والمتمثل في القول الممزوج بالخوف المنافق أو الصمت برجاء السلامة، وإتقان لنفاق يتمدد عبر كل كلمة، وكل تصرف. ورأينا أجيالاً متعاقبة من مثقفين يفكرون كما يشاءون لذاتهم وبذاتهم، ويهمسون بآرائهم لخاصتهم معلنين رفضهم للحاكم وظلمه، فما أن يفتحوا فمهم علنًا أو يكتبوا حرفًا حتى يتحولوا إلى أكياس متخمة بنفاق يكسبون به رضاء الحكام ويفتحون به سبل الترقي والصعود، أو في أسوأ الأحوال البقاء في أمان.
ومع عسف وشراسة الخليفة المأمون ومحنة امتحان العلماء في مسألة “,”خلق القرآن“,”، لم يبق أمام العالم أو الفقيه أو المثقف سوى أحد أمرين: مخالفة صحيح الإسلام ومخالفة ضميره، أو السجن والتعذيب والقتل. وهكذا، وبنسب متفاوتة تختلف زمانًا ومكانًا، ظل المثقف العربي – الإسلامي محاولاً عبثًا أن يتعايش مع يقينه بصحيح الإسلام، أو صحيح الموقف السياسي، وأيضًا وفي نفس الوقت مع ما يعتقد يقينًا أنه تأسلم أو موقف سياسي خاطئ. ويركب أرجوحة مخجلة لا تثمر ثقافة حقة ولا إبداعات مقبولة.
ولكن.. ما هي قصة المعتزلة؟ ولماذا أتاهم هذا الاسم؟
مؤسس هذه الجماعة هو واصل بن عطاء [80 - 131هـ]، واسمه بالكامل أبو حذيفة واصل بن عطاء المعتزلي المعروف بالغزَّال. وكان أحد الأئمة المشهورين بالبلاغة والقدرة على الحوار وإتقان علم الكلام. وكان يلثغ بحرف الراء. ويعلق المبرد على ذلك: “,”كان ابن عطاء أحد الأعاجيب؛ ذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلّص كلامه من الراء دون أن يفطن لذلك أحد، لاقتداره على الكلام وسهولة تدفق ألفاظه“,” [المبرد – الكامل – المرجع السابق].
ويحكي السمعاني قصته قائلاً: “,”وقد اعتاد واصل الجلوس في دروس أبي الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، بينما قال الآخرون بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر، نادى واصل بفكرة ثالثة قال فيها إن مرتكب الكبائر لا مؤمن ولا كافر، فغضب منه البصري وعنفه؛ فترك مجلسه واعتزله هو وعدد من مؤيديه، منهم عمرو بن عبيد، وقيل إن أبا الحسن البصري قال ساعتها: “,”اعتزلنا واصل“,”؛ فأُسمي ومن معه “,”المعتزلون“,”.
ويمضي السمعاني قائلاً: “,”ولواصل بن عطاء تصانيف عدة، منها: كتاب “,”أصناف المرجئة“,”، وكتاب “,”التوبة“,”، وكتاب “,”المنزلة يبن المنزلتين“,”، وعديدًا من الكتب، منها: “,”معاني القرآن“,”، و“,”السبيل إلى معرفة الحق“,”، و“,”طبقات أهل العلم والجهل“,” [السمعانى - كتاب الأنساب]. بينما يروي البعض أنهم أُسموا بالمعتزلة؛ لأنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته.
أما القاضي عبد الجبار الهمزاني، وهو المؤرخ المعتمد للمعتزلة، فقد نفى وبشدة أن المعتزلة مذهب جديد، أو فكرة طارئة أو طائفة أو أمر مستحدث.. وإنما هم استمرار لما كان عليه الرسول الكريم وصحابته، وقد أطلق عليهم هذا الاسم لأنهم اعتزلوا الشر؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُون)، ولقول الرسول [صلى الله عليه وسلم]: «من اعتزل الشر سقط في الخير».
وثمة روايات عديدة لمصدر هذه التسمية. فالشهرستاني يقول: دخل رجل على أبي الحسن البصري، فقال: “,”ظهر أناس في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر الإيمان فيقولون لا يضر مع الإيمان معصية.. فكيف تقول في ذلك؟ فانبرى ابن عطاء قبل أن ينطق أستاذه: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن إيمانًا كاملاً ولا كافر كفرًا مطلقًا، بل هو في منزله بين المنزلتين، فغضب منه أستاذه، فاعتزله“,” [أبو الفتح – الشهرستاني – الملل والنحل].
ورواية أخرى يرويها أبو الحسن الملطي فيقول: “,”إنهم سموا أنفسهم كذلك لمّا بايع الحسن معاوية وسلم له أمر الخلافة، فاعتزلوا الحسن ومعاوية معًا وجميع من وافقهما، ولزموا مساكنهم ومساجدهم، وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة، فسموا بالمعتزلة“,” [أبو الحسن الملطي – التنبيه والرد على أهل البدع].
ولقد تعمدت أن أورد تعدد الروايات في شأن تسمية فرقة من الفرق؛ لعل هذا التعدد يمنحنا القدرة على عدم الإغراق في التسليم بكل ما يأتي في كتب التراث. فالروايات عديدة حول أكثر الموضوعات بما يجعل من أعمال العقل فيها والاختيار فيها بينها أمرًا حتميًّا.
.. ولكن ما هو الفكر المعتزلي؟