إن كتابات نجيب محفوظ تشغل مكانًة مركزية فى الثقافة العربية، ليس فقط لأنها ترصد بطريقة فنية خلَّابة حالة المجتمع المصرى من الناحية الإنسانية والاجتماعية والسياسية خلال فترة ما بين الحربين الأولى والثانية، هذا المجتمع الذى كان قاطرة الحداثة فى المنطقة العربية، بل كذلك لأن محفوظ عرف كيف يبدع أنماطًا تتجاوز، فى الزمان والمكان، شخصيات مدينة القاهرة فى تلك الفترة؛ مما جعله يتوصل إلى تأسيس خيال روائى قادر على أن يكون بديلًا للواقع وبديلًا للتاريخ. غير أن الكاتب مهما كان عظيمًا، فإنه لا يتجاوز مقتضيات التاريخ، ولا مكوناته الرئيسية الأصيلة، ولا رؤى الطبقة التى ينتمى إليها فكريًا أو اجتماعيًا.
وفى حديث لنجيب محفوظ أجراه معه الكاتب عبدالعال الحمامصي، وضمه فى كتاب (هكذا تكلم نجيب محفوظ) يقول:
«أنا أنتمى أساسًا لثورة يوليو، ومنتمى للإصلاح الزراعى والعدالة الاجتماعية، وكل إنجازات ثورة يوليو البنَّاءة قريبة إلى وجداني. ولكن فى الوقت نفسه بجانب انتمائى لها أتناقض معها فى أمرين: سلبيات الذين أفسدوها عند التطبيق من جهة، ومن جهة أخرى عدم استكمالها بالديمقراطية، لذلك أنقد الثورة من موضع الانتماء لا من موضع الرفض، أنتقد اللصوص، أنتقد الاستبداد... ».
و«الكرنك» مقهى فى حى شعبى من أحياء القاهرة، تمتلكه «قرنفلة» امرأة جميلة تناهز الأربعين وهى راقصة متقاعدة، وزبائن المقهى مجموعة من الشبان والشابات والرجال والكهول والشيوخ وأصحاب المعاشات. إن القارئ الذكى بعد أن يفرغ من قراءة رواية نجيب محفوظ يستطيع أن يحكم بأن «مقهى الكرنك» هو البطل الأول والأخير فى الرواية، وذلك لأن الأحداث ما حدثت إلا فيه، وما اجتمعت شخصيات الرواية إلا فيه أيضًا، فداخل «الكرنك» دارت أحداث الرواية، وحتى ما لم يحدث داخلها لم نعرفه نحن إلا من خلالها، وذلك عندما تسترجع شخصيات مثل «إسماعيل الشيخ» و«زينب دياب» و«خالد صفوان» هذه الأحداث، وتحكيها بعد وقوعها عن طريق الذاكرة للراوي.
وإذا كانت أحداث رواية نجيب محفوظ تدور داخل مقهى، فإن «المقهى» شخصية رئيسية فى معظم أعماله، اختارها مكانًا لجلوس، ومعايشة الناس، والتأمل، فانعكس ذلك كله فى أعماله بصورة أو بأخرى. لم يُعْرَف عن نجيب محفوظ أنه دعا أيًّا من أصدقائه - حتى المقربين - لزيارته فى بيته. ظل بيته كقلعة حصينة لا يعرف أحد ما يجرى بداخلها، جعل المقهى بيتًا ثانيًا له، يجالس فيه أصدقاءه وتلاميذه ومريديه، وربما فضّل - فى بعض الأحيان - أن يجلس إلى نفسه يقرأ الصحف ويتأمل، أيضًا داخل «المقهى». يتذكر نجيب محفوظ دور «المقهى» فى حياته، فيقول:
«... المقهى يلعب دورًا كبيرًا فى رواياتي، وقبل ذلك فى حياتنا كلنا، لم يكن هناك نواد، المقهى هو محور الصداقة، البيوت لا تسمح بالزيطة، فى البداية اتسع لنا الشارع، حتى تجرأنا على المقهى، عرفت المقهى فى سن مبكرة، منذ أوائل الثانوية بفضل أحد الأصدقاء... المقاهى بالنسبة لى ذكريات لا تنتهي» (جمال الغيطاني، نجيب محفوظ يتذكر، دار المسيرة، بيروت، 1980، ص ص 88، 90 ).
إن نجيب محفوظ عندما ينتقى اسم مسرح أحداث الرواية «مقهى الكرنك» ثم يقوم بتسمية الرواية بـ«الكرنك» تستطيع أن تفطن إلى أن هذا العنوان قد جاء منه عن عمد، ذلك لأن نجيب محفوظ استمد هذا الاسم «الكرنك» من التسمية التى تُطْلَق على معبد أثرى كبير، ويمثل معبد «الكرنك» شاهدًا على حضارة مصر وأصالتها على مر التاريخ. إن «الكرنك» هو عبارة عن مسمى رمزى يقصد به نجيب محفوظ الاسم الأكبر «مصر»، وعلى هذا فقد لمسنا ما اشتمل عليه العنوان من تصدر لبطولة العمل، ودلالة على هويته المكانية. ففى المقهى تتجمع متناقضات متعددة، وأشخاص مختلفون، وفيه تحدث مفارقات الحياة كلها، وبه يلتحم الجميع التحامًا تامًا، لا ينفصل عنهم ولا ينفصلون عنه، بل هو تحليل للعلاقة الوطيدة بين ماضى الشعب وحاضره، ومنه تنبعث كل الحركات النضالية، مجسدة فى زينب دياب وإسماعيل الشيخ. والمقهى هنا برمزيته الواضحة يعطى مدلولًا عميقًا لحدود واقع الشعب السياسى والاجتماعى والفكري، إذ يبدو المقهى وسيلة مهمة للكشف عن بواطن الشخصيات وسلوكها، وقد حدد محفوظ إيحاء المقهى الرمزى على لسان البطل الروائى فى الرواية، بقوله:
«وقلت اللهم إنى أحب هذا المكان، القهوة فاخرة والماء نقى عذب والفنجان والكوب آيتان فى النظافة، عذوبة قرنفلة، وقار الشيوخ، حيوية الشباب، جمال الفتاة... وثمة عناق حار بين الماضى والحاضر، الماضى العذب والحاضر المجيد» (الكرنك، ص 4).
وفى موضع آخر يتحدث نجيب محفوظ عن «مقهى الكرنك»، قائلًا:
«ومن أسراره أيضًا أنه كان - وما زال - مجمع أصوات عظيمة الدلالة، تفصح نبراتها العالية والخافتة عن حقائق التاريخ الحى» (الكرنك، ص 10).
قسَّم نجيب محفوظ الرواية إلى أربعة فصول، كل فصل معنون باسم البطل الذى يدور عنه الحديث فى هذا الفصل (قرنفلة، إسماعيل الشيخ، زينب دياب، خالد صفوان). وهذا التقسيم حسب الأشخاص انتهجه محفوظ فى كثير من رواياته؛ إن لم تكن كلها، فهو الأسلوب المتبع فى «حديث الصباح والمساء»، و«حكايات حارتنا»، و«أولاد حارتنا»، وغيرها. اختار محفوظ ذلك التقسيم لأن هدفه فكري، ومادته قضايا حول الحرية والكرامة والوطنية والشرف، فليس الهدف الأساسى متمثلًا فى الأحداث المشوقة المعتمدة على السرد، بل فى الأفكار والآراء والمواقف التى يناسبها الحوار، ولهذا قامت القصة فى معظمها على الحوار. وقد أدى به ذلك أن يجعل مكانها محدودًا بمقهى الكرنك، لأن من طبيعة المقهى أن يضم أشتاتًا من الناس فى أفكارهم وأعمارهم واتجاهاتهم ومواقفهم وطباعهم وسلوكهم.